الوضع المظلم
الجمعة ٢٧ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
  • أخوَنَةُ الأمَّة بالجملة لا بالمفرَّق.. المشروع الأخطر (الجزء التاسع)

أخوَنَةُ الأمَّة بالجملة لا بالمفرَّق.. المشروع الأخطر (الجزء التاسع)
عبد الناصر الحسين

تميزت العقود الأولى من تأسيس جماعة «الإخوان المسلمين» بالظهور الفكري حيث قدمت الجماعة نفسها فكرياً على أنها الخط الوسط ما بين الصوفية والسلفية, مسوقة نفسها على أنها تتبنى الإسلام فكراً وحركة، وسياسة وجهاداً، ومنهج حياة كامل وشامل. في واقع شهد فراغاً فكرياً إلى درجة أنه قابل للامتلاء بأي منظومة فكرية لها رتابة معينة. مما جعل الإخوان المسلمين يتمددون سريعاً في صفوف الشباب المسلم، المتعطش للأطر الفكرية، والكاره للنمطيات الفقهية السائدة، بل ويخوضون سجالات حوارية مع التيارات الأخرى، فينتصرون عليها أحياناً وينهزمون أمامها أحياناً أخرى.


نستطيع التأكيد أن ذروة الفوران الفكري عند الإخوان المسلمين كانت في مرحلة الاعتقال الكبير للجماعة في العقدين السادس والسابع من القرن الماضي. ففي أقبية السجون- التي تتيح فائضاً من الوقت لتلاقح الأفكار- حصل الانفجار الفكري الكبير، حين اختطف «سيد قطب» راية التنظير والتأطير من «الإخوان البنَّاويِّين» فأنتج فكراً نظرياً لا يصلح تطبيقه إلا في خيال أصحابه، فكراً شكَّل عبئاً كبيراً على شباب الجماعة، وحمَّلهم مسؤولية مواجهة العالم بأسره، وهو الأمر الذي لا تطيقه النفوس.


حتى إذا خرجوا من السجن وراحوا يعملون تحت الشمس اكتشفوا تلك الهوَّة السحيقة ما بين الفكرة والتطبيق، وما بين النظري والعملي، لينقسموا إلى تيارين رئيسين: تيار ذهب بعيداً في «النظرية القطبية» فتفرَّق ما بين جماعة الهجرة والتكفير، وجماعة الجهاد، وتنظيم القاعدة. وتيار تخلى تماماً عن المبادئ الفكرية والمنطلقات النظرية، محافظاً على الحد الأدنى من تراث مؤسس الجماعة «حسن البنا» متبنياً «البراغماتية السياسية» التي أسس لها ذلك الحوار المستفيض بين الرئيس المصري «أنور السادات» والمرشد العام «عمر التلمساني» تمهيداً لخروج الإخوان من السجون عبر صفقة مع الحكومة المصرية.


فمنذ ذلك الحين اعتمد الإخوان قاعدة أصولية تقول: «أينما كانت المصلحة فثمَّ شرع الله»، لتدخلهم هذه القاعدة في متاهات وضلالات عجيبة، أساءت إلى جوهر الإسلام، ومقاصد الشريعة الإسلامية، حيث اعتقد الإخوان أن ما يرونه مصلحة لحزبهم تحديداً فهو الاسلام الحقيقي، ففعلوا أفعالاً لا تمُتُّ إلى الإسلام بصلة، ومع ذلك اعتبروها من صلب الإسلام، وأن عموم المسلمين لا يفهمون حقيقة الدين الإسلامي.


بهذا «اللافكر» خاض الإخوان معظم مغامراتهم الخاسرة في مصر وأفغانستان والسودان والعراق وسوريا وفلسطين، يتنقلون من فشل إلى فشل، ومن هزيمة إلى أخرى، محاولين إقناع أنفسهم وحاضنتهم أن المحن تصقل القلوب وتنقِّي الصفوف، ليمضوا بذلك أكثر من أربعين سنة من التيه والضياع، فلا هم قادرون على العودة إلى الوراء، إلى زمن الفكر القديم، خوفاً من تحديات الواقع، ولا هم قادرون على الهروب إلى الأمام نحو مراجعة حقيقية لفكرهم، خوفاً من حاضنتهم، ومن نقد التيارات الإسلامية الأخرى لهم.


هنا دخل الإخوان في مرحلة جديدة مختلفة كلياً عن الحقبتين السابقتين!.. مرحلة تميزت بالعدوانية المفرطة، وتميزت بظاهرة جديدة تتمثَّل بإخوانية الحكومات ليبرز دور «دولة قطر» في الخليج العربي، و«حكومة أردوغان» في تركيا، وتميزت كذلك بتصاعد وتيرة التنسيق بين «الجمهورية الإسلامية الإيرانية» والإخوان المسلمين، تنسيقاً وصل إلى حد الخيانة والطعن في الأمة جمعاء. كما تميَّزت تلك المرحلة بدعم الإخوان المسلمين للتيارات الإرهابية المتشددة وأبرزها «تنظيم القاعدة».


ذلك الجنون الإخواني المدعوم بشكل رئيس من «دولة قطر» جعل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ودولة البحرين وجمهورية مصر العربية تتخذ قراراً بمقاطعة قطر في 2017 لحملها على التخلي عن سياساتها التخريبية في المنطقة العربية، وكف «شبكة الجزيرة الإعلامية» عن سياسة التحريض على الكراهية ونشر العنف.


غير أن قادة الدوحة هربوا بعيداً إلى الأمام بدلاً من العودة خلفاً ومراجعة نهجهم التدميري، معزِّزين تحالفهم مع إيران وتركيا، متضامنين على مشروع بالغ الخطورة يمكن اختزاله بكلمة «أخونة الأمة بالجملة».


بعد أن تخلى الإخوان المسلمون عن طرحهم الفكري الذي تأسست عليه الجماعة وخاضوا مغامراتهم الخاسرة دون نهج محدد، ها هم اليوم يتقوقعون على حزمة من الأفكار لا تشبه الفكر مطلقاً، وتتلخص في شيطنة الحالة العربية ومهاجمتها بكل الطرق الإعلامية مستفيدين من أحدث التقانات.


لم يعد للإخوان هوية فكرية واضحة، فأنت قديماً كنت تعرف الشخص الإخواني من خلال حديثه عن الخلافة والحاكمية والولاء والبراء والجهاد والسمع والطاعة، لكنك اليوم بوسعك أن تتعرف على الإخواني من خلال مفردات الشتم واللعن والتجريح وكل ذلك محاطاً بمقولات وأخبار كاذبة أو مؤولة، مع تأكيده أنه لا يتبع للإخوان.


فالإخوان المسلمون اليوم يعملون على النشر المكثف وفي كل الاتجاهات، فلا يمكن لأحد أن يتجنب منشوراتهم لأنها تلاحقه في كل فضاء إعلامي، وخاصة على «السوشال ميديا» التي كثرت فيها ظاهرة «اليوتيوبيين» الذين يتحدثون بانفعال وافتعال مصطنع بأي شيء، وكأنهم تدربوا على أن يجعلوا من أي حدث أو «لا حدث» قضية يهرِّجون بها.


ولقد بلغ من تأثيرهم على الناس أن فضائحهم مغفورة ومبررة وأن مصدَّقون فيما يقولون، وهنا مكمن الخطر، فأنت تلاحظ أن طيفاً واسعاً من شباب الأمة ومثقفيها يتكلمون بالأفكار ذاتها ويتداولون مواضيع مزيفة على أنها الحقيقة المطلقة، التي لا تقبل الجدل.


لم يعد الإخواني هو ذلك الشخص الذي يظهر واعظاً في بعض المناسبات أو منظِّراً لفكرة الخلافة لكنه اليوم- وبكل أسف- قد يكون يسارياً أو قومياً أو علمانياً أو ليبيرالياً، فكلهم يتحدثون بالطريقة نفسها، فهل سنصحو يوماً على الأمة وقد «تأخونت» بهذا المعنى الذي سردته؟.


والمؤسف حقاً أن الجهات المستهدفة بأخطر مشروع لا زالوا يتبنون فكرة «دعهم يتكلمون»، مع أن نار الفتنة تقترب وتتقدم بنجاح، مما ينذر بضرورة وضع الخطط اللازمة لمواجهة المخطط الآثم. قبل أن تتحول الحرب الإعلامية إلى حروب مسلحة، لا تنتهي إلا بتدمير البنيان والإنسان.


المشكلة في مؤامرة «أخونة الأمة بالجملة» أن المتلقي لا يكاد يكتشف موجة سابقة من الكذب حتى تغمره موجة جديدة لا تتيح له التفكر وأخذ العبر، لأنه الآن يكابد كذباً جديداً، حتى إذا انشحنت نفسه بالحقد والكراهية لم يعد يبالي بصدق الروايات أو زيفها لأنه يعلل نفسه بالقول: «هؤلاء القوم نصدق فيهم كل شيء».


أصحاب هذا المخطط التدميري يملكون من الفضائح ما لا تطيقه الضمائر الحية، لكنهم مرتاحون آمنون من النقد والمساءلة، لأنهم صرفوا أعين الناس عن شائناتهم الحقيقية، وأشغلوهم بالمفتريات على الدول العربية، وتحديداً الدول التي عاقبت قطر.


باختصار: فإن تنظيم الإخوان المسلمين مفلس في كل شيء فارغ من كل فكر لا يملك أربابه سوى نهج «مراكمة الكذب» المبني على الحقد، والكيان القائم على الحقد لا يصنع المجد. وأكثر ما يغيظهم نجاح الآخرين، فكلما أبصروا نجاحاً هناك قاموا بضخِّ كمية جديدة من الكذب حتى لا يرى الناس أي مظهر للتنمية والنهضة والبناء في بلاد العرب.


لا مكان عند الإخوان المسلمين للطرق التقليدية القديمة في تنسيب الناس لحزبهم، وليس مهماً أن يستفردوا بالأشخاص على انفراد لينسِّبوهم إلى الجماعة، فهم اليوم منشغلون بأخونة الأمة بالجملة، ليدخل الناس في المشروع الآثم أفواجاً، مما يحتِّم على أصحاب القرار تدارك الأمر بإطلاق ورشات عمل إعلامية صغيرة لكنها «نوعية وكثيرة».


عبد الناصر الحسين.


 

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!