الوضع المظلم
الأربعاء ٢٥ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
أصل نظام التفاهة
آزاد أحمد علي

يعدّ الأكاديمي الكندي، الدكتور آلان دونو، مبتكر مصطلح "نظام التفاهة"، أو على الأقل دفع به نحو العالمية، وهو عنوان لكتاب صدر مؤخراً في بيروتعام 2020، حيث وفقت في ترجمة الكتاب ونقله إلى العربية الدكتورة مشاعل عبد العزيز الهاجري. يقع الكتاب في 366 صفحة من القطع المتوسط. هذا وقد أحدث ترجمة الكتاب ونشره صدى واسعاً، حتى بات من الكتب الرائجة بل المحظوظة.


لماذا يعدّ كتاب "نظام التفاهة": كتاباً محظوظاً وكيف؟


أفترض أنّ هذا الكتاب من الكتب المحظوظة، لأنّ مجموعة من العوامل تفاعلت لرفع أسهمه، وبالتالي حددت مستوى حضوره ورواجه، ليرجح ويوثق لحظة في النجاح والريادة، إن جاز التعبير.


أول هذه العوامل هو عنوانه الموفق والمعبّر بدقة عن الموضوع، وخاصة باللغة العربية، إنّه عنوان لامس مشاعر الاستياء وحرّك أمواج الغضب من جديد، كما نفخ في جمرة المظلوميّة الناتجة في هذه الحقبة، فمصطلح "التافه" قوي وفعال وكاسح في اللغة العربية، ولا أدري ما إذا كان له نفس الدلالة والمفعول في الأصل، أي باللغة الفرنسية (La mediocratie) التي كتب بها دونو، أو في اللغة الإنكليزية (Mediocracy) التي تعني الوسطية بشكل رئيس، وليست التفاهة حرفياً (Insignificance) أو (Pettines). مهما يكن فعلى الأرجح صدمة وقوة مفعول المصطلح باللغة الإنكليزية أو اللغات العالمية الأخرى قد ساهمت أيضاً في هذا الانتشار الواسع للكتاب.


أما من حيث المضمون، فسمة الكتاب الرئيسة تتلخص في كونه قراءة نقدية خاصة وشاملة لأبرز أسس ومرتكزات هذه المرحلة الأخيرة والمعاصرة من تاريخ المجتمعات البشرية، لدرجة يعدّ النص نقداً شاملاً لكل مناحي الحياة، العلمية والفنية والاقتصادية والسياسية، كحاصل الجمع بينها. إنّه كتاب مغرق بالإسناد والاقتباس، بمعنى إنّه غير إبداعي تماماً ولا مبتكر كلياً، وإنّما بمثابة تطوير وتوليف وتفعيل لما كتبه الآخرون في نفس الموضوع جزئياً على مرّ الزمن، على الرغم من ذلك يظلّ بحثاً علمياً – أكاديمياً نمطياً. ولكن يبدو أنّ سرّ نجاحه أيضاً يكمن في قدرة الباحث ألان دونو من أن يلتقط أبرز عنوان جامع ومثير للمرحلة، كما يجيب باختزال، ومن زاوية مختلفة، عبر هذا العنوان المثير نفسه عن أسئلة ملحة، يستجيب الكتاب ويروي التعطّش لمعرفة سرّ هذا الانحطاط الشامل واللعنة التي لحقت بالبشرية في الآونة الأخيرة.


لقد لخص جهده البحثي في افتراض وجود "نظام التفاهة" كنظام متماسك ومسيطر عالمياً، وهو بذلك يوصف بدقة ويعرّف من جديد أنّ نظام التفاهة يمثّل آخر مراحل النظام الرأسمالي المعاصر. وعلى الرغم من هذا المضمون الصريح، لو فرضنا أنّه ترجم المضمون بصيغ أخرى، كأن عنون الكتاب بـ"أسوأ مراحل النظام الرأسمالي أو انحطاط الرأسمالية"، على سبيل المثال، ربما لم يكن قد نال جهده الكبير ربع هذا الاهتمام.


سأتطرّق لعلاقة نظام التفاهة عند دونو بدور المال والنظام الرأسمالي فقط، نظراً لتشعّب كتابه النقدي، وتطرّقه لجملة من الحقول الأخرى.


يحيل ألان دونو جذر نظام التفاهة لدور المال – العملة في الجوهر، ويعدّه الناقل الأول لمرض التفاهة، إذ إنّ المال هو ناقل لعدوى التفاهة، بل حب المال هو مرض عضال يصنع المال ساتراً يخفي كل شيء. لقد فرض المال نفسه على الثقافة الحديثة كطريقة لحساب متوسط القيمة (average value)، بعدما أصبح العلامة المفضلة للتوسّط بين السلع. فهذه الوحدة للقياس المتوسط للقيم فرضت نفسها خلال التاريخ كناقل للتفاهة". ص201


وتفاقم الدور السلبي للمال في سياق سيرورة تاريخية طويلة: "تبدأ المشكلات عندما نتوقّف عن النظر إلى النقود كوسيط للقيمة، فنبدأ نتصرّف كأنّها تتضمن قيمة، أو كأنّها في حدّ ذاتها قيمة". ص202


إلى أنّ تحول هذا الدور ضمن علاقات النظام الرأسمالي الغربي الأوروأمريكي: "تبدو النقود وكأنّها مقدّر لها أن تختلس، وأن تستخدم كرشوة. وهكذا، لأنّ النظام الثقافي الغربي فرض لعبته الخاصة بالنقود على العالم، مفسداً إياه بذلك، فإنّ الأمور تعرض نفسها بذات الطريقة، في كل مكان." ص 211


وهكذا فالنظام الرأسمالي وطاقة النقود هي التي دفعت وتدفع أغلب مناحي الحياة نحو التسليع، بمعنى القدرة على السيطرة والاستحواذ كلياً على المنتج البشري، سواء كان مادياً أم ثقافياً، عن طريق الرأسمال، فمقتضيات الربح وتراكم النقود من قبل المموّل دفعت حتى المنتج العلمي والثقافي، وخاصة الفني، نحو التسطيح بل نحو التسفيه، وهذه الظاهرة أو الميكانيزم، أي التسليع والتسطيح، ومن ثم خدعة التسويق، تظل أبرز سمات نظام التفاهة، وبالتالي يمكن الاستنتاج أنّ نظام التفاهة هو استطالة معاصرة للنظام الرأسمالي، وهو بذات الوقت على علاقة جدلية مع النظام الضامن والمسيطر على المجتمعات البشرية تاريخياً، بمعنى أنّ النظام الرأسمالي في مراحله الأخيرة هو المنتج لنظام التفاهة. فنظام التفاهة هو الاسم الجديد، بل العنوان المثير للنظام الرأسمالي نفسه.


لكن دونو لا يجد الحل والخروج من نظام التفاهة تقليدياً، وإنّما ركّز على الرفض لما هو قائم والنقد لكل ما هو سائد، نقد لكل ما يقودنا إلى الانحطاط الأخلاقي والنفسي والاجتماعي، مع ضرورة الاستفادة من التجارب الثورية والاتجاهات الفكرية السابقة، كاليسار مثلاً، لكنه لم يقترح طريق اليسار ومناهجه كمخرج من دوامة نظام التفاهة، بل نقد اليسار نفسه وأيديولوجياتها، واقترح مخرجاً راديكالياً معوماً وغير واضح المعالم: "أنا، النكرة، المسكين، Poor Littel Nothing، ما الذي يمكنني عمله بهذا الصدد؟ توقف عن السخط وانتقل إلى السؤال التالي: اعمل بلا هوادة لخلق توليف من القضايا الوجيهة، التق بآخرين في تجمعات بخلاف تلك الطائفية والشللية، اسخر من الآيديولوجيات، اختزل المصطلحات التي تريد البروباغاندا كتابتنا في جوهر ذواتنا، وحولها إلى موضوعات مجردة للتفكير، تجاوز أساليب السيطرة التي تمارسها المنظمات، وحاول خلق بنى تشبهنا. كن راديكالياً!" ص365


ولكن أيّ راديكالية يرديها دونو لكي تكون قادرة على إزاحة نظام التفاهة المهيمن عالمياً؟





آزاد أحمد علي


ليفانت - آزاد أحمد علي


 


 

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!