الوضع المظلم
الخميس ٢٦ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
الأسديّة بوصفها طائفة عامة
غسان المفلح







لاشك أنّ الثورة السورية وتفاعلاتها، قد أتاحت لنا مناقشة وافرة لكل مفاهيمنا المسبقة، سواء على الصعيد الآيديولوجي أوالمعرفي. في الواقع إنّنا كمعارضة، رغم كل ما قدّمناه من دراسات وقراءات عن طبيعة النظام الأسدي، أتت الثورة لتكشف لنا جوانب، لم تعرها المعارضة اهتماماً، ربما نتيجة للسياق الدولي والعالمي، فات المعارضة الاهتمام بالمجتمع السوري وتفاعلاته الداخلية، بفعل الأسدية، وبفعل التفاعل مع هذه الأسدية. على سبيل المثال لا الحصر، المعارضة تعاملت مع المسألة الطائفية، مثلاً، إما بإنكارها، أو برؤية الفعل والممارسة الطائفية للأسدية.


حيث اهتمت، منذ اللحظة الاولى، وحتى الآن، بفعل السلطة الأسدية، من خلال هذه الممارسات، بالمجتمع من أعلى، إضافة لمحاولة تبيان البنية الطائفية للسلطة، دون المرور على قنوات التفاعل هذه، بين بنى المجتمع وممارسات السلطة، في هذا الحقل من تطييف هذا المجتمع، حتى تفاجأت المعارضة بابتعاد الغالبية المسيحية وفاعلها الديني، كذلك غالبية الطائفة العلوية عن الثورة، واتخذت موقف العدو والداعي لسحقها، منذ أول تظاهرة، في حوران، آذار 2011. إضافة إلى انقسام حاد في المستوى السياسي الكردي السوري، منذ اللحظة الأولى، ومنذ قمع تظاهرات عفرين على يد فرع البي كي كي في سورية، هذا في جانب منه، تتحمله قوى المعارضة العربية، أولاً، والكردية، ثانياً.


ثم وصل الأمر لارتكاب مجزرة في عامودا، إضافة إلى الوقوع في الفخ الجهادي، الذي هو فخ طائفي بامتياز، منذ تموز 2012، عندما رفعت أول راية سوداء قادمة من العراق، في معبر باب الهوى، على الحدود التركية. إذا كانت الممارسات الطائفية هي نتاج هذه السلطة، بوصفها البؤرة المولدة للحدث السوري رغماً عنه، قد تم تمريرها عبر قنوات تتحكم فيها، لكن قصورنا، كمعارضة، أنّنا لم نعالج تفاعل البنى المجتمعية مع هذا الضخ، أي لو استعرنا أنّ هذه القنوات لم تكن وحيدة الاتجاه من أعلى إلى أسفل، بل بعد مرور أعوام قليلة على انقلاب الأسد الأب، حتى بدأت معالم تفاعل الأسفل نحو الأعلى، استقطاب السلطة لكل رجال الكهنوت الديني الفاعل، عند كل مكونات المجتمع السوري. لكن الغريب في الموضوع، أنّ الفاعل الديني السني انقسم منذ اللحظة الأولى للثورة، بينما لم ينقسم الفاعل الديني عند بقية مكونات الشعب السوري، عند المسيحيين والعلويين _السلطة بوصفها فاعل ديني وسياسي في آنٍ معاً_ عند الدروز وعند الإسماعيلية، أيضاً، هذا لا يعني عدم وجود حالات استثنائية، هذا الواقع ليس نتاج الضخ من أعلى هرم السلطة، إلى أسفل بنى المجتمع، بل، أيضاً، تفاعل بنى المجتمع مع هذه الحالة بفعل عامل القمع، وما يقابله من خوف، كعامل أول وأساسي، ثم عامل الرشوة والفساد والمصالح والآيديولوجيات المسبقة الصنع، هذه الكتلة المتفاعلة شكلت طائفة عامة، إنّها الطائفة الأسدية، صحيح أنّها تشكّلت من كل ما ذكرت، لكن بقيت نواتها الصلبة هي الطائفة العلوية.


إذا انطلقنا من مقولة الحس العملي “Practical sense” لعالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، وحاولنا إسقاطها على البيئة السورية، يمكننا أن نتعرّف على جانب من إشكاليتنا، فقدرة الفاعلين في موقع السيطرة على فرض إنتاجاتهم الثقافية والرمزية، يلعب دوراً أساسياً في إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية للسيطرة. إنّ ما يدعوه بورديو بالعنف الرمز،ي والذي يعرّفه بوصفه “القدرة على عدم التجاهل” الاعتباطي لهذه الإنتاجيات الرمزية، وبالتالي قبولها بكونها مشروعة.


مثال ساطع: كانت اللهجة الساحلية أو العلوية قبل انقلاب الأسد 1970، لا تثير انتباه المواطن السوري من أي طائفة كان أو قومية أو دين، بينما بعد انقلاب الأسد وتراكم هذا الضخ المترافق مع ممارسات السلطة الأسدية، باتت هذه اللهجة تحتمل ردة فعل لا إرادية عند هذا المواطن، ردة فعل خائف متحسب، لأنّها باتت تمثل سلطة قمعية، عندما يسمعها المواطن ينكمش، ينقبض على نفسه، تماماً.


مثال آخر، كان اللباس العسكري لرجال المغاوير أو ما عرفت بالوحدات الخاصة لاحقاً، كلباس مموّه، لا يثير الخوف بقلب المواطن الدمشقي، ابن العاصمة، أو أي مواطن سوري آخر، أما بعد أن تشكلت سرايا الدفاع التي يقودها رفعت الأسد، بات هذا اللباس العسكري المموّه يشكل بحدّ ذاته ما يشبه حالة الرعب، لدى ابناء المدن الأخرى، ردة فعل لاإرادية، كنت قد عالجت هذا الموضوع قبل الثورة بسنوات.


الطائفة الأسدية تمحورت حول هذا الضخ السلطوي، شكل المموّه والرجل الذي يحمل مسدساً على خصره، باعتباره رجل مخابرات، واللهجة العلوية، رمزية الأسدية، بات يقلدها أحياناً بعض المواطنين من غير العلوية، ليؤمن مصالحه، أو يخيف غيره، إعادة إنتاج الأسدية رمزياً، فالكتلة الأسدية تحلقت حول هذا الإنتاج الأسدي، على مدار عقود خمسة، أوصلت سورية إلى ما وصلت إليه من دمار. التنمر الأسدي وجهازه التشبيحي، تعبير عن هذه الفاعلية الرمزية للأسدية، التي قبلها المواطن، وبات لها شرعية متعارف عليها، لكنها ليست مقوننة ولا مكتوبة.


الأسدية بوصفها طائفة عامة، لأنّها تتصرّف بناء على هذا المعطى التمييزي في كل شيء، وفعلت ما يمكننا تسميته “تنضيد دوائر الموالاة”، الأقرب فالأقرب. فماذا فعلت الثورة في هذه الحالة؟ هذا السؤال يحتاج لجهود الباحثين الشباب. كما لعب الإسلاميون بالمقابل دوراً من خلال الرد الخاطئ على هذه الممارسات، وهذا ما سنحاول معالجته في مادة لاحقة.

يتبع…


ليفانت – غسان المفلح








كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!