الوضع المظلم
الخميس ٢٦ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
الدستور السوري.. هادم الدولة ومفكّك المجتمع
رياض علي

التعبير الأشمل لكلمة الدستور عادة هو العقد الاجتماعي، والذي يعني بطبيعة الحال الرابط أو الاتفاق الذي يُعقد بين السلطة والشعب في الدولة التي تسير على هدي دستورها، وهذا العقد هو الذي يرسم حقوق وواجبات الطرفين، والغاية الأساسيّة لأي عقد اجتماعي أو دستور هي تحقيق الأمن والأمان للبلاد التي ينظم شؤونها، ولتحقيق ذلك يفترض أن يكون الدستور هو الرابط الذي يشكل حلقات الوصل بين المكونات المجتمعية التي تؤلف بتماسكها ترابطاً هوياتياً، وبالتالي يركز على الحوامل المشتركة بين تلك المكونات لتلتحم جميعها معاً، وتشكل سدّاً في وجه الانزلاق إلى نبش الخلافات البينية التي ستنهش جسد المجتمع، وتقود دفتة في النهاية إلى صراعات تودي بحياة الدولة.

فلا يكفي أن يحمل الدستور بين دفتية تلك القواعد الناظمة للحقوق والحريات، والمؤسِّسة للسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وآليات عملها، وطرائق اختيار شخوصها، وغيرها من القواعد والأطر القانونية التي تنصّ عليها الدساتير عادةً، بل يجب أن يرسّخ أيضاً القيم المعزّزة لأواصر التلاحم المجتمعي، ويبتعد عن سياسات الإقصاء والتهميش لبعض المكونات لحساب إعلاء كلمة بعضها الآخر، وكل ذلك بهدف خلق البيئة الآمنة والمؤاتية لبناء الدولة وتحقيق رفاه شعبها.

لن نُعرِّج في هذا الحيّز الضيق على العلَّات والزلات القانونية الفادحة والكثيرة التي يشتمل عليها دستور سوريا لعام 2012، والذي جاء كنسخة شبه مستنسخة عن سابقه، لاعتقادنا بأنها نالت نصيباً جيداً من الدراسة والتمحيص والنقد من قبل الكثير من الباحثين المتخصصين في هذا المجال، لكن سنركز على مسألة بالغة الأهمية يعتقد كاتب هذه السطور بأن الكثيرين ممن تناولوا دراسة هذا الدستور، لم يتطرقوا إليها، أو على الأقل لم يولوها الاهتمام اللازم، وهي أن هذا الدستور يبذر بذور الشقاق والفرقة بين السوريين، ويأمر السلطات المنشأة استناداً عليه، بضرورة صهر المجتمع السوري بكل أطيافه وألوانه في بوتقة الهوية العربية، وهذا لن يؤدي في النهاية إلا إلى محاولات إنهاء الآخر المختلف وإلغائه، وهذه المحاولات لن تكون إلا بالعنف الذي سيقابله العنف المضاد، ما دام الأمر يتعلق بمحو الذاكرة والتاريخ والهوية، وبدل أن يخلق الدستور البيئة الحاضنة والجاذبة للسوريين بمختلف مكوناتهم، سيهيّئ على العكس البئية الطاردة لهم.

ذكر الدستور في ديباجته بأن "الجمهورية العربية السورية تعتزّ بانتمائها العربي، وبكون شعبها جزءاً لا يتجزأ من الأمة العربية مجسدةً هذا الانتماء في مشروعها الوطني والقومي، وفي العمل على دعم التعاون العربي بهدف تعزيز التكامل وتحقيق وحدة الأمة العربية"، وأضافت المادة الأولى بأن "الشعب في سوريا جزء من الأمة العربية". إذاً، اعتبر كل السوريين عرباً، دون أن يراعي التنوع الديني والقومي واللغوي الذي يزخر به المجتمع السوري ويتميز به، ودون أي اعتراف أو حتى ذكر للمكونات السورية الأخرى، كالكرد والآشوريين والأرمن والسريان والشركس والشيشان والتركمان، وبالمقابل فقد تم ذكر كلمة العربي والعربية في الديباجة وحدها، والتي لا تتخطى الصفحة الواحدة، عشر مرات، هذا بالإضافة إلى ما ورد في المادة الرابعة باعتبار اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد، دون إيلاء أي اعتبار لوجود لغات أخرى متمايزة تتكلم بها شرائح واسعة من الشعب السوري، ودون منح أبنائها الحق بالتحدث بلغاتها المميزة لوجودها، وتجلَّى التمييز الديني بأبشع صوره في المادة الثالثة التي اشترطت أن يكون رئيس الجمهورية مسلماً، وبالتالي حرمت أبناء الديانتين المسيحية والإيزيدية من حقهم المشروع في المشاركة بإدارة شؤون بلادهم.

واذا كان المكون العربي العزيز يشكل أغلبية سورية، فهذا لا يعني أن يُلغى وجود الآخرين المختلفين، وتُطمس هوياتهم وتُصهر جميعها في البوتقة العربية، الأمر الذي سيخلق قلقاً وجودياً لديهم بشكل قد يدفعهم الى التمسك بهذا الوجود بشتّى السبل المتاحة، ومنها العنف.

طبعاً، لا يعني ما ذكرناه بأنّ هذا الدستور جاء بشيء جديد في السياق السوري، بل على العكس، ما ذكره ليس إلا ترجمة حقيقية للواقع السوري المُعاش على مدى عقود من الزمن، خصوصاً بعد استيلاء حزب البعث العربي الاشتراكي على السلطة منذ عام 1963، حيث كان إقصاء وتهميش الآخر المختلف عن المكون العربي من خصائص سلوكيات هذا الحزب وأدبياته، ولن نجتهد كثيراً للتعرف على العواقب الوخيمة التي ألمّت بسوريا والسوريين نتيجة تلك السياسات التي انتهجها الحزب المذكور، خاصة وأنه كان وما زال "الحزب القائد للدولة والمجتمع" منذ ذلك التاريخ المشؤوم.

وللإنصاف، لم يكن كل العرب السوريين، كما يظن البعض، أصحاب الحظوة لدى هذا النظام أو الحزب، بل كانوا مجرد عدة الشغل التي استخدمها للانتقام من خصومه الراغبين بتقويض حكمه "الأبدي"، حتى لو كانوا عرباً، ولم يستفيدوا كعرب من سياسات هذا الحزب وسلوكياته سوى بعض المصطلحات القومية والانتصارات اللفظية التي دغدغت مشاعر بعضهم لا أكثر.

ومع انطلاق الاحتجاجات السورية ربيع 2011، والتي رفعت شعار "الشعب السوري واحد"، توقع البعض أن يَعدل نظام الأسد وحزبه الحاكم عن سياساته التمييزية، أو على الأقل سيخفف من حدتها، لكن على العكس من ذلك زاد من وتيرتها ووسع نطاقها، وأصدر الكثير من القوانين والمراسيم الإقصائية التي قسَّمت المجتمع السوري على عدة مستويات، قومية ودينية ومجتمعية واقتصادية، محركها الأساس هو منطق الموالاة والمعارضة، تتلخص غايتها القصوى بخلق "مجتمع متجانس" يتناغم مع تطلعات الأسد الوريث لسوريا "المفيدة"، وكان ذلك من خلال سياسات التجويع والحصار لمدن وبلدات بأكملها ومن ثم قتل وتهجير كل من لا تتفق جيناته مع "المجتمع المتجانس" المنشود، ووَضَعَ العراقيل (الموافقات الأمنية) أمام الراغبين في العودة لديارهم، ووصل به الأمر إلى قطع خدمات السجل المدني عن السوريين القاطنين في المناطق الخارجة عن سيطرته، وما نتج عن ذلك من حرمانهم من تسجيل الولادات والوفيات وحالات الزواج التي تمت خلال عقد من الزمن أو يزيد، وبالتالي اختفاء وجودهم القانوني من تلك السجلات، وتزامن ذلك مع استجلاب وتجنيس ميليشيات طائفية ايرانية تتوافق توجهاتها مع تطلعات الحالمين بالمجتمع المتجانس، وإسكانهم في بيوت أولئك الذين تم قتلهم أو ترحيلهم من السوريين. سياسات أسهمت في النهاية إلى إحداث تغيير كبير في الخارطة الديمغرافية السورية، وتسببت في انزياحات سكانية هائلة أنتجت تمييزاً وتبايناً غير مسبوقين في المجتمع السوري.

إذاً، بدل أن يغير النظام الحاكم من سياساته التمييزية بحق بعض مكونات الشعب السوري، زاد من حدتها وشموليتها ليتم تكريسها دستورياً بلا خجل، وأتت القوانين والممارسات اللاحقة على الأرض لتوسع من رقعة تلك السياسات وتشمل جميع المكونات بلا استثناء، عدا المكون الجديد الذي يمكن أن نسميه بالمكون "الأسدي المتجانس"، إن صح التعبير، والذي يشمل كل من يُشبِّح لإجرام الأسد وطغيانه، أو على أقل تقدير، يرضى بهذا الإجرام ويسكت عنه، أما من يرى نفسه خارج إطار هذا المكون المُختَلَقْ سيعتبر خائناً للوطن والأمة، بغض النظر عن دينه أو عرقه أو قوميته أو لونه أو لغته أو جنسه، فالكل في هذه الحالة متساوون في المصير الأسود المنتظر، القتل أو غياهب السجون.

قلناها مراراً وتكراراً، الدستور السوري الحالي، المؤسِّس لحالة التمييز والتفرقة، لا يصلح للتعديل، وأية محاولة في هذا الاتجاه ستؤزّم الوضع المعقد، وتفكك بنية المجتمع وتهدم الدولة. بل يكمن الحل بكتابة دستور جديد يحفظ حقوق الجميع وينبذ التفرقة والتمييز ويراعي خصوصيات المكونات، ضمن إطار الهوية السورية الجامعة، وهذا سيشكل الخطوة الأولى على طريق بناء مجتمع سوري جديد يؤمن بأن الدولة السورية هي ملك السوريين جميعاً، وليست مزرعة لآل الأسد وزبانيته، مع ضرورة إتباعها بخطوات أخرى، تتمثّل بإلغاء وتعديل بعض القوانين، ولا سيما التمييزية منها والمكرِّسة لدكتاتورية النظام، وكذلك بتفكيك وإصلاح المؤسسات السورية، وبالأخص تلك التي أوغلت إجراماً وقتلاً وقمعاً بحق السوريين. صحيح هي خطوات صعبة وشاقة لكن لا مفر منها.

 

رياض علي

ليفانت - رياض علي

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!