-
السلطتان التشريعية والتنفيذية في سوريا ماضياً وحاضراً ومستقبلاً
لم تفعل قذائف المدفعية الفرنسية ما فعلته سهام البعث بالبرلمان السوري، حيث كبلت البلاغات والتعاميم الحزبية السلطة التشريعية الممثلة لإرادة الشعب وقولبتها ضمن حيّز ضيق حتى بلغت أدنى صورها بتعديل الدستور السوري خلال دقائق معدودة ليتناسب وسنّ وريث الجمهورية.
فمنذ نشأة المملكة السورية عام 1918، خطّ ممثلو الشعب الخطوط العريضة للمملكة الدستورية السورية القائمة على نبذ حكم الفرد، وهو ما نصّت عليه المادة الأولى من دستور عام 1920 بالقول: إن حكومة المملكة السورية هي "حكومة ملكية مدنية نيابية". وهو ما ترجمه نواب المؤتمر السوري العام في مناكفتهم لتوجهات الملك فيصل في قضايا معينة، ومنها مباحثاته في مؤتمر باريس وسواه من المؤتمرات التي رسمت خرائط المنطقة.
رحل الملك فيصل عن سوريا وبقي المجلس تعبيراً عن الدولة السورية، واستمرّت الحياة البرلمانية في سوريا خلال فترة الاحتلال الفرنسي، كأحد أوجه النضال من أجل الحرية والاستقلال، وتجلى ذلك بفرض كتابة دستور سوري، وإجراء انتخابات ديمقراطية تفضي إلى عودة المجلس ممثلاً السلطة التشريعية والشرعية لسوريا.
اعتبر دستور 1928/1930، الذي وضع خلال حقبة الانتداب الفرنسي، أنّ الجمهورية السورية "جمهورية نيابية"، إذ جاء فيه "إن سوريا دولة ذات نظام للحكم جمهوري نيابي، وإن حقوق الطوائف الدينية المختلفة مكفولة فيه، ويتولى مجلس النواب المنتخب من الشعب بالاقتراع السرّي السلطة التشريعية، وينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري"، كما نصّ على حماية الحقوق والحريات، فجاء فيه إن "الأمة مصدر كل سلطة، والسلطة التشريعية مَنُوطة بمجلس النواب"، وبهذا فقد مُنح البرلمان المنتخب سلطة التشريع، ما فوّت الفرصة على أي حاكم أن يمنح نفسه بصفته رئيساً للسلطة التنفيذية حق التشريع.
ولد الاستقلال السوري من استقلال البرلمان وحاميته التي رفضت تأدية العلم الفرنسي، الحادث الذي ردّت عليه قوات الانتداب بقصف البرلمان وحاميته، في التاسع والعشرين من أيار عام 1943، وتوسّع القصف ليطال دمشق وعدداً من المدن السورية، ولم تنتهِ الحادثة إلا بصدور قرار عن عصبة الأمم ينهي الانتداب على سوريا.
بدأت المواجهة الأولى بين السلطتين التشريعية والتنفيذية عقب حقبة الاستقلال في محاولة الحكومة إصدار المرسوم رقم 50 في العام 1946، والذي يؤدي إلى تقييد الحريات ومراقبة الأحزاب والتضييق على حرية الصحافة والتعبير، وفيما نجحت السلطة التشريعية في منعه، مضيفة نقاطها على حساب السلطة التنفيذية في إقرار مبدأ الانتخاب المباشر عام ١٩٤٧، والذي يُتيح للمواطنين انتخاب نوابهم بشكل مباشر دون مرحلة وسيطة، إلا أنها تعرضت لانتكاسة في انتخابات ١٩٤٧، والتي تعرضت للتزوير من قبل الحكومة لضمان أكثرية برلمانية في مسعى من الحكومة لتعديل الدستور بما يسمح للرئيس شكري القوتلي بالتمديد بشكل مخالف للنصوص الدستورية، ما دفع بالقوتلي لإنزال الجيش وفرض حظر تجول في مدينة حلب على وقع الضغوط الشعبية التي شهدتها تلك الفترة، وهو الأمر الذي فتح للجيش بوابة للتغوّل على الحياة المدنية في سوريا.
وسع دستور 1950 من اختصاصات السلطة التشريعية على حساب السلطة التنفيذية، فقد جاء في المادة الأولى منه "سوريا جمهورية عربية ديمقراطية نيابية، ذات سيادة تامة" ونصّت المادة الثانية منه على أن "السيادة للشعب، لا يجوز لفرد أو جماعة ادعاؤها، تقوم السيادة على مبدأ حكم الشعب بالشعب وللشعب"، وبذلك أصبح البرلمان المنتخب من الشعب هو مصدر السلطات، حيث يشكّل مرجعية للحكومة، كما بإمكانه عزل الرئيس والحكومة في حال تجاوزهما للصلاحيات المنصوص عنها في الدستور، وحظر على النواب التنازل عن سلطة التشريع في المادة 59 منه بالقول: (لا يجوز لمجلس النواب أن يتخلّى عن سلطته في التشريع)، كما اعتبر مجلس النواب في (حالة انعقاد دائم) بموجب المادة 43 ولم يقرّ له نظام الاجتماع بدورات، حتى لا تستغل السلطة التنفيذية عطلة المجلس لإصدار مراسيم تشريعية بين دورات الانعقاد.
تراجعت السلطة التشريعية بداية مع الانقلابات التي شهدتها سوريا في خمسينيات القرن الماضي مروراً بمرحلة الوحدة بين سوريا ومصر، إلا أن الانتكاسة الكبرى للسلطة التشريعية بدأت مع انقلاب 1963 وإعلان حالة الطوارئ التي جعلت من صلاحيات الحاكم العرفي مطلقة، وبذلك حصلت السلطة التنفيذية من خلال فرض حالة الطوارئ على هيمنة كاملة على قوى المجتمع والدولة وسلطاتها، والتي لم تعد تعمل إلا بأمرها ووفق إرادتها، ودخلت السلطة التشريعية سقوطها الحر مع دستورعام 1973 بداية بحق الترشح الحر لمنصب رئاسة الجمهورية، حيث حصرت المادة 84 هذا الحق باقتراحٍ مقدم من (القيادة القطرية لحزب البعث) إلى مجلس الشعب الذي يُصدر قانوناً ينظّم استفتاء صورياً على منصب الرئاسة، إلى المادة الثامنة منه، والتي جعلت من حزب البعث قائداً للدولة والمجتمع، رغم غياب هاتين المادتين عن دستور 2012، إلا أنه ودستور 1973 ولدوا من مشكاة واحدة، لذا فإن مناقشة إحداهما تغني عن الأخرى.
نصت المادة (100) من دستور عام 2012: يُصدر رئيس الجمهورية القوانين التي يقرها مجلس الشعب، ويحق له الاعتراض عليها بقرار معلل خلال شهرمن تاريخ ورودها إلى رئاسة الجمهورية، فإذا أقرّها المجلس ثانية بأكثرية ثلثي أعضائه أصدرها رئيس.
(المادة 103): يُعلن رئيس الجمهورية حالة الطوارئ ويُلغيها بمرسوم يُتخذ في مجلس الوزراء المنعقد برئاسته وبأكثرية ثلثي أعضائه، على أن يعرض على مجلس الشعب في أول اجتماع له، ويبين القانون الأحكام الخاصة بذلك، ما يعني عدم اشتراط موافقة مجلس الشعب على ذلك.
(المادة 107): يُبرم رئيس الجمهورية المعاهدات والاتفاقيات الدولية ويلغيها وفقاً لأحكام الدستور وقواعد القانون الدولي.
(المادة 108): يمنح رئيس الجمهورية العفو الخاص، وله الحق برد الاعتبار.
(المادة 111): لرئيس الجمهورية أن يقرر حل مجلس الشعب بقرار معلل يصدر عنه.
(المادة 113): يتولى رئيس الجمهورية سلطة التشريع خارج دورات انعقاد مجلس الشعب، أو أثناء انعقادها إذا استدعت الضرورة القصوى ذلك، أو خلال الفترة التي يكون فيها المجلس منحلاً.
(المادة 114): إذا قام خطر جسيم وحال يهدّد الوحدة الوطنية أو سلامة واستقلال أرض الوطن أو يعوق مؤسسات الدولة عن مباشرة مهامها الدستورية، لرئيس الجمهورية أن يتخذ الإجراءات السريعة التي تقتضيها هذه الظروف لمواجهة الخطر، وهي مادة فضفاضة لتغوّل وتوسّع في صلاحيات السلطة التنفيذية دون تقييدها بموافقة السلطة التشريعية.
(المادة 116): لرئيس الجمهورية أن يستفتي الشعب في القضايا المهمة التي تتصل بمصالح البلاد العليا، وتكون نتيجة الاستفتاء ملزمة ونافذة من تاريخ إعلانها.
(المادة 117): رئيس الجمهورية غير مسؤول عن الأعمال التي يقوم بها في مباشرة مهامه إلا في حالة الخيانة العظمى، ويكون طلب اتهامه بقرار من مجلس الشعب بتصويت علني وبأغلبية ثلثي أعضاء المجلس بجلسة خاصة سرية، وذلك بناء على اقتراح ثلث أعضاء المجلس على الأقل وتجري محاكمته أمام المحكمة الدستورية العليا، وهي تعقيدات بدأت بدستور عام 1973 واستمرّت بدستور 2012 من خلال بناء حائط دستوري معقد أمام السلطة التشريعية في ممارسة مهامها في مسائلة رئيس السلطة التنفيذية ودون تحديد ماهية الخيانة العظمى محل المساءلة.
(المادة 150): لرئيس الجمهورية كما لثلث أعضاء مجلس الشعب حق اقتراح تعديل الدستور ويتضمن اقتراح التعديل النصوص المراد تعديلها والأسباب الموجبة لذلك.
ومن قراءة هذه المواد يدرك القارئ تغوّل السلطة التنفيذية ممثلة برئيس الجمهورية على السلطة التشريعية، ويدرك معها أن مبدأ فصل السلطات الذي نصّ عليه الدستور، وتشترطه المبادئ الدستورية الحديثة، لا وجود له على أرض الواقع السوري، سواء لناحية النصوص الدستورية أو تطبيقها، لذا فإنّ أي دستور قادم يجب أن يقوم على مبدأ فصل السلطات فصلاً سليماً، إضافة لإعادة الصلاحيات المسلوبة من السلطة التشريعية ومنها:
1: النص على مسؤولية رئيس الجمهورية/ رئيس الحكومة وحكومته أمام السلطة التشريعية.
2: حصر إصدار القوانين التشريعية بمجلس الشعب.
3: حصر حق فرض قانون الطوارئ في حال الحاجة لفرضه بالسلطة التشريعية.
4: حجب حق إصدار العفو الخاص، أوالحق برد الاعتبار عن رئيس السلطة التنفيذية، وإعادتها للسلطة القضائية صاحبة الحق في ذلك.
5: حجب حق إبرام المعاهدات والاتفاقيات الدولية أو إلغائها عن رئيس السلطة التنفيذية، وإبقائها ضمن صلاحيات السلطة التشريعية كما نصّت عليه المادة 75 من دستور 2012، على أن يصدر الصك القانوني لاعتماد المعاهدة، بتوقيع رئيس الجمهورية بعد إقرارها من قبل السلطة التشريعية.
لا يمكن حصر ما يجب أن يكون عليه حال السلطة التشريعية بعد نصف قرن من سحقها تحت أقدام السلطة التنفيذية في سوريا، وربما الحل الجذري والأنسب لسوريا المستقبل يتمثّل في نظام حكم برلماني بدل النظام الرئاسي الذي يحكمها، حتى يتثنى للسلطة التشريعية التعافي مما شابها في الخمسين العجاف التي عاشتها.
ليفانت - عمار جلو
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!