الوضع المظلم
الثلاثاء ٢٤ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
  • اللامركزية كحل لمشكلات سوريا: دوافع مخاوف بعض المعارضين الليبراليين

اللامركزية كحل لمشكلات سوريا: دوافع مخاوف بعض المعارضين الليبراليين

مع استمرار الآلام السورية وتعمق مشكلات الحكم والإدارة، يبرز الحديث عن اللامركزية كأحد الحلول الممكنة لبناء سوريا جديدة وأكثر استقرارًا. ورغم أن اللامركزية تعدّ من المبادئ المتبعة في كثير من الدول الحديثة، إلا أن بعض المعارضين السوريين، بما في ذلك من يُعرّفون أنفسهم بالليبراليين، يصرون على نموذج الدولة المركزية، ويعتبرون اللامركزية تهديدًا لوحدة البلاد، فما الذي يدفعهم إلى هذا الموقف، ولماذا يخشون من تطبيق اللامركزية رغم فوائدها الواضحة؟

أحد أبرز الأسباب وراء رفض بعض المعارضين لفكرة اللامركزية هو الخوف من أن تؤدي إلى تقسيم سوريا المقسمة، خاصة في ظل التركيبة الاجتماعية المعقدة للبلاد، والتي تتنوع فيها الانتماءات الطائفية والقومية، يرى هؤلاء أن تحويل السلطة إلى الأقاليم والمحافظات قد يشجع بعض المناطق على السعي نحو الاستقلال، خاصة في شمال وشرق البلاد، مما يهدد وحدة سوريا كدولة.

ولكن، في الحقيقة، يمكن للامركزية أن تكون عامل استقرار لا عامل تفكك، إذا طُبقت بطريقة مدروسة تعزز التعاون بين المناطق بدلًا من تعميق الفجوات بينها، وما أن اللامركزية لا تعني الانفصال أو الاستقلال، بل تعني توزيع الصلاحيات وإعطاء كل منطقة القدرة على إدارة شؤونها المحلية، بما يخدم مصالح السكان ويعزز شعورهم بالانتماء للدولة.

هذا ويربط بعض المعارضين اللامركزية بمشاريع سياسية خارجية تهدف، في نظرهم، إلى تقسيم سوريا وإضعافها. هذا التخوف له جذوره في تاريخ التدخلات الخارجية ومحاولات بعض الدول تحقيق نفوذها في سوريا، مما يجعل البعض ينظر للامركزية كجزء من هذه المخططات.

ورغم أن الحذر من التأثيرات الخارجية أمر مشروع، إلا أن رفض اللامركزية بناءً على هذا التخوف قد يكون قصير النظر ونابع عن أفكار شوفينية وديكتاتورية، فتبني نموذج لامركزي لا يعني بالضرورة الاستجابة لضغوط خارجية، بل يمكن أن يكون استجابة لحاجات داخلية حقيقية يعاني منها الشعب السوري في كافة المناطق.

عدم فهم نموذج اللامركزية بعمق

 

من المشاكل الأخرى التي تعيق تقبل اللامركزية هي ضعف الفهم الدقيق لنماذجها المختلفة، يعتقد بعض المعارضين أن اللامركزية تعني ببساطة إضعاف الدولة المركزية أو تقليص سلطتها، بينما اللامركزية الحقيقية هي في الواقع إعادة توزيع للسلطات بشكل يسمح للمجتمع المحلي بالمشاركة الفاعلة في اتخاذ القرار، وهي في جوهرها تعزز كفاءة الحكومة، إذ تتيح لكل منطقة اتخاذ القرارات التي تناسب واقعها المحلي.

الخوف من فقدان السيطرة السياسية

 

منا أنه يمكن ربط ذلك الرفض بالخوف من فقدان السيطرة السياسية، فلا يمكن إنكار أن بعض المعارضين، وخصوصًا أولئك الذين يرون أنفسهم جزءًا من (النخبة السياسية) المستقبلية، قد يخشون من أن تطبيق اللامركزية سيقلل من نفوذهم وقدرتهم على التحكم في القرار المركزي، فاللامركزية تعني أن السلطة لن تتركز في العاصمة فقط، بل ستتوزع على نطاق واسع، مما قد يقلل من تأثير النخب في دمشق على القرارات التي تخص المناطق المختلفة.

النظرة الشمولية والتأثير الأيديولوجي

حتى بين المعارضين الليبراليين، توجد أحيانًا بقايا من الفكر الشمولي الذي يفضل النموذج المركزي للدولة، ويرى فيه ضمانًا للوحدة الوطنية والحفاظ على الهوية المشتركة. هذه الرؤية قد تكون ناتجة عن عقود من الحكم المركزي في سوريا، وتأثير الحكومات الواحدة على تفكيرهم ونهجهم السياسي الممارس، حيث تم تصوير الدولة المركزية كضامن للاستقرار،، ولكن في واقع الأمر، أظهرت التجربة أن الحكم المركزي الشمولي لم يكن فعالًا في حل الأزمات، بل كان جزءًا من المشكلات التي أدت إلى الاحتجاجات والثورة، وإلى ما نحن فيه في المقام الأول. 

وهنا وللتأكيد على دور اللامركزية كحل للأزمات الداخلية، يمكن النظر إلى تجارب بعض الدول التي كانت تعاني من نزاعات مماثلة ونجحت في تحسين استقرارها من خلال نظام لامركزي، لعل وعسى يتشكل لدى هؤلاء الليبراليين قناعات جديدة تخص اللامركزية السياسية.

من هذه التجارب، تجربة العراق: فبعد سقوط النظام العراقي السابق، تبنت البلاد نموذجًا فيدراليًا يمنح سلطات واسعة للأقاليم، خاصة إقليم كردستان، هذا النظام ساهم في تهدئة الصراعات السياسية والإثنية إلى حد كبير، حيث يسمح للأقاليم بإدارة شؤونها الداخلية والتعامل مع القضايا المحلية بشكل مستقل عن الحكومة المركزية. ورغم التحديات التي تواجه العراق، فقد ساعدت اللامركزية في تحقيق نوع من الاستقرار في المناطق التي عانت طويلًا من التهميش والإقصاء.

والتجربة الثانية هي أوروبية في إسبانيا، حيث اعتمدت إسبانيا منذ نهاية الديكتاتورية الفرانكوية في السبعينات نظامًا لامركزيًا يمنح الحكم الذاتي لمناطق متعددة مثل كاتالونيا والباسك، اللتين كانتا تشهدان مطالبات قوية بالاستقلال، وقد ساهمت اللامركزية في تخفيف حدة الصراعات، وسمحت لكل منطقة بإدارة شؤونها المحلية، بما في ذلك التعليم والصحة والتشريعات المحلية. هذا النظام لم يحافظ على وحدة إسبانيا فقط، بل عزز أيضًا الشعور بالمشاركة في صنع القرار وقلل من النزاعات الداخلية.

وفي الختام، علينا أن نتأكد وفق قناعات أكاديمية ومهنية بأن اللامركزية ليست تهديدًا لوحدة سوريا، بل يمكن أن تكون طريقًا لبناء دولة أكثر عدالة وتشاركية، فهي تتيح لكل منطقة إدارة شؤونها بما يخدم احتياجات سكانها، وتوفر حلاً للعديد من المشكلات الاقتصادية والخدمية التي تعاني منها البلاد، عوضًا عن الخوف من اللامركزية وربطها بالانفصال، ينبغي النظر إليها كوسيلة لتعزيز الوحدة الوطنية، وتقوية الشعور بالانتماء للدولة من خلال تعزيز المشاركة المحلية في صنع القرار.

إن بناء سوريا جديدة يحتاج إلى حلول مبتكرة، واللامركزية قد تكون أحد هذه الحلول، ولكن بكل تأكيد تحقيقها يتطلب حوارًا وطنيًا عميقًا يتجاوز المخاوف التقليدية، ويركز على تقديم ما يخدم الشعب السوري في كافة المناطق، بعيدًا عن الانقسامات السياسية والأيديولوجية.

 

ليفانت-شيار خليل

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!