-
جدلية الفساد بين ثقافة المجتمع وسياسة السلطة
عند النظر إلى حالة التردي المستفحلة التي يتخبط فيها الواقع العربي وتدهور الأحوال على الساحة العربية اليوم، وإلى الفشل الذريع في إيجاد حل مخرجي من ذلك، فكثيرا ما يوجّه اللوم إلى المثقفين العرب، الذين فشلوا في إخراج شعوبهم من مستنقعات التخلف الممتدة عبر القرون، ومعهم يحمّل ذنب هذا الاستنفاع الثقافي والاجتماعي للمنظومة التربوية السائدة التي تنتج وتكرر إنتاج الذهنية الغيبية وثقافة القبيلة وعبادة الزعيم وفساد الأخلاق، أما السلطات الحاكمة المتحكمة فتعفى بحد ذاتها من أية مسؤولية عن استشراء الفساد واستفحال التخلف، وفشل مشاريع النهضة والتقدم، بل وتصبح هي نفسها ضحية فساد شعوبها ومجتمعاتها، كونها مفرزات تنتجها وتصنعها بيئة هذه المجتمعات والشعوب، وفي هذا السياق يصبح المثقف العربي هو المتهم الأول في فشل التغيير، فبما أن الفساد والحطة يعتبران مرتبطين أساسا يتردي الثقافة، فالمسؤول عن هذا الفشل هو المثقف العربي الذي يفشل في تغيير هذه الثقافة، والذي عليه بقدرة قادر أن ينتصر على جهل العوام وظلامية رجال الدين وخبث رجال الاقتصاد وعنجهية وغطرسة وتسلط رجال السلطة، كيف.. الله أعلم!!!
وإن حمّل هذا المثقف بدوره مسؤولية هذا التردي واستفحاله وتعذر الحل للسلطات الحاكمة، فهو عندها -وفقا للرأي الذي تم عرضه- يتهرب من مسؤوليته ويبرر فشله وعجزه، وهذا ما أوجزه أحد المدافعين عن ذاك الرأي بالقول: «تبدّلت آلاف الأسماء في عالمنا وآلاف السُّلطات منذ ما يزيد على ألف عام من حضارتنا "الصميدعيّة"، هل تغيّر شيء؟ أليس الجميع عبارة عن توائم حقيقيّة! حتى ليخيّل إليّ أنّ بصماتهم تتطابق...
لماذا؟
لأن نظام تنشئة العقول، والذي يحكمه الموروث والدين والتفاخر بسطوة وجبروت الملوك والتشبّه بكليب وأبي زيد الهلالي، لم يطرأ عليه أيّ تعديل منذ ألف عام...».
ثم يضيف صاحب ذلك الرأي: «ما الحكومات إلا شمّاعة النخب ومساحة الهروب من المسؤولية الأخلاقية في عالمنا. حين عجزت، أيّ النخب، عن المسّ بالنظرية السائدة، ورفعت رايتها البيضاء في صراعها مع الموروث بأشكاله المختلفة، فراحت تجلد الحكومات. ولو قيّض لها أن تكون مكانها لفعلت ذات الشيء...»، خاتما بذلك كلاما ابتدأه بالقول: «من هي السلطة؟ من هو صانع القرار؟ ...لا شكّ بأنّ كليهما صناعة اجتماعية حصريّة. وعليه، لا يمكنك أن تلقّن طفلك تعاليم الشيطان وحين يكبر تطالبه بأن يتحوّل إلى ملاك. فبيوتنا هي أغزر منابع الديكتاتوريّة، وأكبر مقالع الفساد... أنا وأنت وأيّ شخص على هذا الكوكب، أيّنما كان موقعه يحمل بيته معه، وما سلوكه وقرارته إلا من وحي تربيته... »، وهذا الرأي، الذي، يحمّل البيوت جريرة فساد السلطات، هو رأي متداول، وكثيرا ما يرى فيه طارحوه التقاء مع حديث " كما تكونوا يولى عليكم"!
وهكذا تصبح الشعوب هي المذنبة في كل ما تفعله السلطات من شرور، فبيئات هذه الشعوب هي المفارز التي أفرزت هذه السلطات، وهي التي تتحمل وزرها، فلم لو تكن هذه البيئات فاسدة، لما أنتجت حكومات فاسدة، هذا إضافة إلى مسؤوليتها عن فساد الأفراد من أبنائها الذين أنتجتهم بيوت الشعب وليس مؤسسات السلطة!!
بالطبع.. ثقافة المجتمع وسياسة السلطة أمران جدليا التأثير في ما بينهما بالتأكيد، ولا يمكن قطعا إغفال الدور المجتمعي في مشكلة الفساد، فالفساد المجتمعي ليس مجرد مفعول ونتيجة، ولكنه فاعل وعامل وسبب أيضا، إلا أن السؤال الأهم هنا هو عن دور "السلطة" الحاكمة، فهناك سلطات تحارب الفساد، وسلطات تكرس الفساد، وسلطات تضاعف الفساد! أما الفساد في المجتمعات هو أمر طبيعي، وهو أحد دواعي قيام الدولة، ولذلك فهذا الفساد لا يدين المجتمع عندما يوجد فيه، وإدانة المجتمع على ما فيه من فساد هي تماما مثل إدانة ساكني الكهوف البدائيين على سكناهم الكهوف، ولكن الفساد يدين السلطة التي لا تحاربه، وتصبح الإدانة مضاعفة عندما تتحول السلطة نفسها إلى بؤرة فساد وحاضنة وحامية للفساد!
إن وضع المجتمعات العربية بلا أدنى شك هو وضع مأساوي ومثير للاشمئزاز إلى أبعد الحدود، وهذا بكل تأكيد ليس فقط وزر الطغم الحاكمة اليوم وحدها، فلدينا الموروث البالي المتراكم عبر القرون، والتركيبة الاجتماعية الرثة الضاربة الجذور في تاريخ رثاثتها، وهناك المآرب الخارجية الخبيثة الكبيرة وسواها...
وماذا بعد كل ذلك؟
إننا نجد أنفسنا في واقع كارثي، والمشكلة فيه مستفحلة!
فهل من حل، وما هو الحل؟
عندما نقول أن المجتمع في وضع مزر، فمن هنا يبدأ وعي المشكلة والاعتراف بها والبحث عن الحل!
لكن عندما ننظر إلى المجتمع بكل ما فيه من فساد كحالة ميؤوس منها ونحمله وزر فساد السلطة كونها واقعيا بدرجة مؤثرة مفرز من مفرزاته في جانب من جوانبها، فهذا حكما يقودنا إلى الاستسلام النهائي!
أما إذا كنا نبحث عن حل، والحل لا يتحقق بلمسة سحرية من عصا كعصا موسى الأسطورية، فهنا سنجد بمنتهى البساطة، أنه لا حل بدون دولة، ولا دولة بدون سلطة، والأمر جلي، فمن طبيعة الناس أن يمرضوا، ولذا لا بد من علاجهم، وبقدر ما يكون المرض أكثر أو أكبر، تصبح الحاجة إلى العلاج أكثر وأكبر، ولو لم يكن هناك مرض فمن البديهي تماما ألا يكون ثمة حاجة للعلاج، ولكي يكون العلاج فعالا، فلا بد من تنظيمه بشكل عقلاني، ولأن العلاج لا يمكن تركه للعطارين والمشعوذين، طورت المجتمعات عبر تاريخها شكلا منظما لممارسة الطب، وهو شكل يقتضي من جملة ما يقتضي ووجود مؤسسات تعليمية وعلاجية ورقابية، ولكي تعمل هذه المؤسسات بالشكل الصحيح، لا بد من وجود آليات ونظم وقوانين ووزارات كوزارة التعليم العالي والصحة، ولا بد من وجود هيئات رقابة ونقابات وصناعات وهلم جرى.. وهذا كله يدخل في نطاق الدولة، وهو ينسحب على باقي القطاعات في المجتمع، فمثلا لأن الناس يختلفون على حق أو على باطل، لا بد من وجود قضاء، ولا بد من وجود سلطة قادرة على تنفيذ أحكام القضاء!
وخلاصة ما تقدم من كلام... أنه مهما كان وضع المجتمع مترديا، فهناك حل، والحل دوما يقتضي وجود الدولة، وبالطبع الدولة هي ليست كل الحل، ولكنها شرط لازم ومحوري في الحل، وهي كقاطرة القيادة في القطار!
لكن وكما سبق القول، فـ"حاميها يمكن أن يتحول إلى حراميها"، وهكذا تصبح الدولة صانعة أساسية للفساد، فتكرس الفساد الموجود في المجتمع وتضاعفه أضعافا!
ولذا فعندما ننظر مثلا إلى حجم الفساد المروع في المجتمع السوري، أو المجتمعات العربية أو أية مجتمعات أخرى، فعلينا دوما أن نسأل بدقة وحزم عن دور النظام الحاكم في ذلك، وألا نسقط عنه المسؤولية والوزر ونحملها (للمجتمع الفاسد بطبيعته أو موروثه أو ربما جيناته...)!
إن وجود المشكلة، هو دوما ما يقتضي حلها، ويقتضي البحث عن حل، وجعل المشكلة نفسها ذريعة لعدم حلها، هو كرفض معالجة المريض بذريعة أنه مريض، وإدانته ومعاقبته على مرضه بدلا من مساعدته وعلاجه!
وعلاج الأمراض الاجتماعية لا يحل بإدانة المرضى بها -أي الشعوب- وتحميلهم الذنب الأخلاقي عن مرضهم ، فالحل يقتضي دوما وجود قوة منظمة يفترض أن تمثلهاا الدولة، ولا يمكن أن يتم الحل بدونها، وعندما تكون الدولة عاجزة عن الحل، فهذا يلغي سبب وجودها، ويجعل من استبدالها ضرورة لا مفر منها كالحارس الذي يعجز عن حماية كرم يحرسه، فما بالك بالدولة التي لا تكتفي بعدم الحل، بل وتصبح أهم أسباب المشكلة، وتغدو مثل الحارس الذي يسرق بنفسه الكرم بدلا من أن يحميه؟! وبذلك تكون مثل هذه الدولة قد تخطت دركة الدولة الفاشلة إلى دركة الدولة المجرمة، فهل تبرّأ مثل هذه الدولة من جرائمها بذريعة أنها مفرز فاسد من مفرزات مجتمعها الفاسد؟!
هناك أمر متفق عليه في علم الاجتماع، ولم يختلف عليه في خطوطه العريضة حتى الليبراليون والشيوعيون، وهو أن وجود الدولة مرتبط جوهريا ودوما بمشاكل المجتمع المختلفة، وبقدر ما تقل هذه المشاكل، تقل الحاجة إلى الدولة، وعندما تنتهي المشاكل تنتهي الحاجة إلى الدولة وينتهي مبرر وجودها وتزول، وهذا ما أسمته الماركسية حالة "مجتمع التسيير الذاتي"، وأسماه بعض سواها "الفوضوية" أو "الأنارخيا" وسوى ذلك!
وهذا يعني أن الحكومات ليست قطعا شماعة النخب ومهربا لها من مسؤوليتها وتبريرا لعجزها!
طبعا هناك من النخب الثقافية من يهرب متعمدا، وهناك من لا يعي أنه يهرب، بل وهناك من لا يريد أن يعي لأنه مرتاح في كذبته، وهذا يمكن أن يقال عن علاقة المثقفين سواء بالسلطات أو بالموروث السائد، فهناك من يرفعون عقائرهم بأشد الأصوات هجوما بحق أو دون وجه حق على التاريخ العربي والإسلامي، ولا يرمون الأنظمة الطاغية الحاكمة ولا بحبة خردل، إما جبنا أو رياء أو تواطؤا أو سوا ذلك! وهناك من يبررون دوما كل ما تقترفه السلطات... أو يزوّرون الحقائق ليصرفوا أنظار المتأذين من فساد وإجرام السلطات عنها إلى جناة مفتعلين مزعومين!
إن القول بأن الحكومات هي شماعة النخب التي تعلق عليها هذه النخب فشلها في صنع التغيير الحقيقي، يمكن أيضا وصفه بأن هروب من المسؤولية الأخلاقية في مواجهة الديكتاتوريات ورمي على شماعة الموروث والماضي، أو شماعة المثقفين أنفسهم! بعد أن حاصرتهم السلطات الديكتاتورية إلى أبعد الحدود وطاردتهم وكتمت أصواتهم، ولم تترك لهم تنظيما سياسيا أو مدنيا يعملون من خلاله أو منبرا ثقافيا أو إعلاميا ينشطون فيه، وليس هذا فحسب بل طوقتهم بجيوش من الجواسيس يحصون عليهم أنفاسهم، ولم تبق لهم وسيلة للوصول إلى الجماهير والتفاعل معها ونشر الثقافة في أوساطها، فكيف بعد كل هذا سيحدث التغيير المطلوب؟ وهل يتحمل وزر عدم حدوثه المثقف المهدد من قبل السلطة في لقمة عيشه وحريته وسلامته.. بل وحياته، ولا يقتصر التهديد عليه وحده بل يمتد ليطال أسرته وأقاربه ومقربيه؟ أم يلام الشعب نفسه على عدم قدرته على تغيير واقعه البائس الذي يمتد بؤسه بعيدا في التاريخ، وهناك دوما سلطات وسلاطين يكررون بعضهم البعض عبر تاريخ البؤس ويحمون هذا البؤس ويعيدون إنتاجه لأنه يخدم بقاء سلطاتهم ومنافع هذه السلطات؟! وكيف تحمّل الشعوب العربية وزر الفشل في التغيير، وسلاطينها يمنعونها من امتلاك آليات التغيير الأهم المتمثلة بمنظمات العمل السياسي والمدني ومنابر التنوير الثقافي، فالعمل السياسي والمدني يلاحقان من قبل السلطات والعمل الثقافي محتكر بدوره من قبل هذه السلطات، ما يجعل كلا من الساسة والثقافة في المحصلة ألعوبتين في أيدي هذه السلطات تلعب بهما كما يناسبها ويرضيها!
إنه لمن الواقعي والواجب عقلانيا تحديد موقع ودور كل عامل من عوامل المشكلة، والقول بأن الحكومات هي مجرد شماعات يعني وبمنتهى البساطة تبرئة هذه الحكومات تماما عبر إلغاء دورها كليا، أي يجعل من وجودها وعدم وجودها سواء! فهل في هذا أية عقلانية ومصداقية؟
أو ليست الحكومات هي من يتحكم بالاقتصاد ويسيطر على قوت الشعوب ويفقرها ويمنعها بالتالي من النمو الاجتماعي؟! أليست هي من يحتكر الإعلام ومن يقمع ويضطهد المثقفين، ويعاقبهم حتى عندما ينتقدون هذا الموروث البالي، والأمثلة في العالم العربي لا تحصى.. والحال في سوريا ليس بأفضل، فمثلا ليست النخب الثقافية هي التي حلت مؤخرا مثلا تنظيما مدنيا (على علاته) كالاتحاد النسائي، ورخصت تنظيمات سلفية كالقبيسيات والشباب الديني، وليس المثقفون هم من أغلق عشرات الصحف والمجلات ودور النشر ليبقوا لنا "البعث والثورة وتشرين" على مدى يزيد على الربع قرن، وليس المثقفون هم من منعوا في الثمانينيات والتسعينيات وسواها كتبا كانت تنشر في سوريا الخمسينيات! وليس المثقفون هم من انشؤوا ذلك العدد العديد من فروع الأمن والمعتقلات والسجون المخصصة للمثقفين والسياسيين الذين لا يقدمون للسلطة فروض الطاعة والتبعية، ولبس المثقفون هم من يحتكر السلطة والاقتصاد والسياسة والثقافة والإعلام، وهذا غيض من فيض!
في جميع بلداننا العربية هناك دوما تحالف وطيد مشؤوم بين مؤسسة السلطة والمؤسسة الدينية والبنى الاجتماعية العنصرية كالطائفة والقبيلة وما فيها من زعامات تقليدية، ويضاف إلى ذلك التحالف سيء الذكر رجالات الاقتصاد الطفيلي أيضا، وهذه كلها قوى شرسة ضارية، وأشرسها مؤسسة السلطة بما تمتلكه من قوى كالجيش والمخابرات والشرطة والإعلام والاقتصاد وسواها! وهذا كله يكرس ويضخم حالة الموروث الفاسد.
وفي مواجهة ذلك يقف المثقف، الذي عليه أن يواجه هذه السلطات الضارية ويواجه غوغائية العامة ونفاق وانتهازية (مثقفي أو أبواق) السلطات، وعدا عن ذلك عليه أيضا مواجهة نفسه هو نفسه، لأنه في كثير من الأحيان إما غير متحرر بما يكفي من موروثه البالي، أو غير مستقل بما يكفي من التبعية والانبهار بالتجربة الغربية!
وعدا عن كل ذلك، هناك أيضا التدخلات الخارجية المغرضة من قبل القوى الدولية والإقليمية بما تملكه من قوى ضاربة أو مؤثرة، وهذه كثيرا ما تتحالف مع المؤسستين، السلطوية والدينية، المهيمنتين، أو تهيمن عليهما نفسيهما!
فهل بقي بعد كل ما تقدم ما يدان أو يلام عليه المثقف العربي؟ أم أن هذا المثقف رغم كل معاناته الجسيمة المتعددة الأشكال، يريد البعض جهلا أو خبثا أن يجعله كبش فداء، للتغطية على صاحب الجرم الحقيقي، المالك لإمكانية التغيير إلى الأفضل، ولكنه بدلا من ذلك يستغل ما يملكه من إمكانيات لدفع مجتمعاته وببالغ القوة إلى الأسوأ، وهذا ما يفعله بامتياز السلاطين العرب، الذين لا يمنعون تقدم مجتمعاتهم وحسب، بل ويودون بها أيضا إلى أكبر الكوارث، والحال في سوريا وسواها من الدول "الشقيقة!" واحد!!
ليفانت: رسلان عامر
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!