الوضع المظلم
الخميس ٢٦ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
  • خالد خليفة والمدينة... والموت المحدق

  • نسجٌ من بعض كلمات خالد بعد 40 يوماً من الرحيل
خالد خليفة والمدينة... والموت المحدق
الكاتب السوري الراحل: خالد خليفة

المدينة التي أنهكتك بعتمتها الموحشة وشوارعها الفارغة وبشرها الخائفين المتعبين من المستقبل، في طريقهم نحو الانهيار، حيث كنت تعرض شظايا قلبك المكسور على المارّة المذعورين، دون أن يجرؤوا على مدّ أيديهم لأخذ قطعة واحدة، لأن قلوبهم التي ترتجف من الجوع والبرد والخوف والفقدان، قد كسرها الأمل المغادر دون رجعة.

المدينة التي تعشقها مع أنها تشعرك بالندم، وبمآلها للحضيض لا محالة، والتي تلحفت بالسواد بعد شهور من بداية الثورة، واشتدت حلكتها مع فقد كلّ شخصية سورية أحبها واختلف حولها السوريين والسوريات، تمنى أصدقاؤك فيها يوم 1/10/2023 أن تقف الكرة الأرضية  للحظات حداداً وحزناً على رحيلك.

لطالما كتبتُ منشورات لأبوح بحزني، كنتَ تتفاعل وربما تعلّق كما الجميع، إلّا ذلك المنشور الذي كتبت فيه عن المدينة، دفعك لأن تسألني قلقاً على الخاص. (ما بك يا لولو؟... تبقي منيحة... خليك منيحة). لم أكن أنا المعنية بالسؤال، بل كان حزننا السرّي ووجعنا، هو الوجع الذي تتساءل عنه وتلاحقه، علّك تجد خاتمة سعيدة مع هذا العشق المنهك، فكنت ترى أنه منذ سنوات اكتفت المدن بترتيب موت الأحباب، وتبادل التعازي بانتظار وداعات أخرى، فهذه البقع التي لا حياة فيها لم تعد قادرة حتى على الموت.

المدينة التي عرفتك وعرفتها، تحدّق بمآسيها ومآسي المدن الأخرى بصمت وألم، صمتت أيضاً مع رحيلك، وبكى أحبابك من زوّارها والقاطنين فيها، لم يكن رحيلاً عادياً، ولم نصحُ من الصدمة إلا مع صدمة الهجوم على الكلية العسكرية خلال حفل تخرج، لم يتبنى الهجوم أحد، إلا انه بات الأغلب يعرف أنه لا سلاح اليوم لهم سوى ذعر المدنيين وإخافتهم أكثر، غير مدركين أنهم لا يخشَون شيئاً بعد الآن، فقط سالت الدماء وبُررت المجازر، وفجع السوريون مجدداً في حمص وإدلب. وبعدها بأيام قليلة نسينا ألمنا بفقدانك وكل الآلام ليوم كامل، شعرنا أننا موجودون، إذ استطاع الفلسطينيون قهر الإسرائيليين ليوم كامل، وحمّلوا قلوبنا من الانتصار ما لم نعرفه وسنعرفه نحن جيل الثمانينات مثلاً، ومن ثم بدأت محاولة اقتلاع مدينة بأكملها في فلسطين، غزة التي لها تاريخ مع محاولات الإبادة والحرمان، في محاولة لمحو تاريخها وأصلها، لكنهم لا يعرفون أيضاّ عمق جذورها، فقط يعرفون بدقة كيف يدمرونها ويرتكبون المجازر ليزرعوا الرعب فينا جميعاً، ويذكرونا كسوريين حصراَ بالمجازر التي لم تنته بعد، في أي مكان في العالم، على ما يبدو أن تكلّف الغباوة في قضية الحقوق سمة أصيلة من سمات الديكتاتوريات.

بعد عودتك من سويسرا في المرة الأخيرة قلت: "هذه أول مرة أستهجن العيشة هنا لهذه الدرجة، لم أعد أتأقلم، هناك كل شيء أسهل، كدت أضعف، لكني أدبر أمور الكهرباء في بيتي أظن أن الأمور ستصبح على ما يرام". لو شهدت كم تكالبت دولٌ وأحزاب وبرلمانيون على غزة وفلسطين، كم فضحوا نفاقهم ببساطة مدهشة لا تذكرنا إلا بالفُجْر، هكذا فعلت إسرائيل بدول كثيرة ادعت ارتداء ثوب الإنسانية، أمام بلد اغتصبت منذ ما يقارب الثمانين عاماً، وتقطع عنها الآن المياه والكهرباء ومعظم أسباب الحياة. لكنت تأكدت تماماً أنك من الصعب أن تضعف كما قلت، وأن الوطن ليس حفنة من تراب نضعه في جيوبنا، نبذره أينما حللنا، دون جلادين وسجون وحرامية ومرتزقة وقتلة، ولا أشجار سائلة نحملها معنا في زجاجات نغرسها أينما أردنا، إنما أوطاننا هي مقتلنا، عشنا فيها أم توهمنا أنّنا تخلصنا منها باغترابنا، وبغيابها لن نغرس أي شتلة أمان في أي بقعة في هذا العالم.

هذه المدن لا تعرف ولهنا بها، كم نشرب من العرق المثنى والمثلث والمربع (حليبنا الصافي)، لننسى أو نفقأ أعيننا، أنّ كلّ الكذبات بوجود حياة أفضل هي وهم، ونخلق الفرح بوجودنا مع بعضنا البعض نحن الأصدقاء، أصدقاؤك يا خالد، القريب منك والبعيد، لأنه لا ملاذ آخر، نختلف، ونعارض بعضنا ونختلق الأسباب والمواقف والأخلاقيات ومن ثم نجتمع على أغان شيخ إمام، ويرقص كلّ منّا على أغنيات شكلت ذاكرته أكثر من غيرها، فلم يكن من الممكن أن تخلو الساحة من نشوتك في الرقص في حضرة الحلبيات! ولهذا أحببت جرمانا كثيراً وتمنيت لو سكنت بها " كلكن هون، كل المعربدين هون"، ولكن دمشق .......

يشبهك العديد في هذه المدينة، من يستطيعون الرحيل واختاروا البقاء، من اختاروا مهنةً أو طريقاً لا يعني لعائلاتهم شيئاً، من يُسأل بين كل سؤالين لماذا لم تتزوج وتنجب؟ أو لماذا لم تُعِد الكرّة إن انتهت الأولى أو الثانية. يشبهك العديد ممن تشغلهم القضايا ولا يمكن أن يهمشوها عن مسار عيشتهم، يشبهك الكثيرون ممن يعانون الوحدة ويبحثون عن الحب، غريبون في أحيان كثيرة، حزينون في أحيان أخرى لدرجة الفقد، مثقلون بذكريات الماضي وثقل الحاضر، الفارق أنك كتبت عنهم وعنك وتركتهم في هذه المعركة ورحلت.

نعم تخيفهم المدينة بعتمتها، تقزّمهم بعطفهم على فقرائها ومشرديها، وبنقمتهم على أغنيائها غير العارفين عن الجانب الآخر شيئاً، يدركون حق الإدراك، أن غنياً من مناطق دمشق المعروفة بالغناء الفاحش يشده وتجحظ عيونه عند رؤية الأطفال يشحذون في كراج الست، ويقرف من سوق الخضرة هناك، يشتري من السوبر ماركت خضاراً معالجة أقذر بكثير، فقط لأنها معبئة بأناقة. ويدركون بأن شراسة الأطفال الذين ينبشون الحاويات وسخريتهم، ما هي إلا تفوّق على تافهة تقترب منهم لتقول لهم: (ما بتحب تكون نضيف؟ ما بتحب تتعلم؟ أنا بجبلك كتب بس اطلاع من الحاوية! ما بسير* تعمل هيك!)

وأنت تعرف كل ذلك، تجرأت وكتبت يوماً "كلّ ما يصنع النصّ الروائيّ يجب أن يغيب عنه، الألم والصمت، التأمّل وآلاف اللحظات المدمّرة، لن تقدّم شيئًا للرواية بل ستحوّلها إلى حقلٍ من الدموع، وسماء مليئة بالنحيب والآهات، ستمطر حبّات مطر لا ماء فيها، إن سرت تحتها لن تتبلّل"!

إذا ماذا سنقول في رواياتنا سوى قضايانا ووجعنا وآلامنا؟ ليأتي من يهرهر الكلمات عن تاريخ الرواية والتيارات الأدبية وتأثر الشكل والمضمون الأدبي بالمتغيرات وبالحروب عبر الزمن، دون أن يعي أننا نراوح أو ننخطف خلفاً، ربما حتى دون أن تعبّر ثورتنا في المستقبل أغلبُ كتب التاريخ، كما حال ثورات اسبانيا وإيطاليا وغيرهم منذ قرون قريبة- إننا نكتب هلعنا اليومي-.

عندما التقينا أول مرة أخبرتك أني لم أقرأ إلّا "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة"، (قولتك بعرف اكتب؟)، هذا ما قلته، ضحكنا وأخبرتك أن شخصية سوسن أرّقتني ببساطتها، دون أن أحكم عليها ببسيطة ضمن شخصيات رواية، فتناقشنا وتحدثنا ومن بعد ذلك مع تكرار اللقاءات، لاحظت كم من الممكن أن تكون بسيطاً في الحديث عن أي شيء، أن تختلق الأحاديث وتغلق نقاشاً مملاً أو غير مرغوب به، إلا في الحديث عن الرواية أو الأدب فإنك تتحول إلى كائن آخر يختلف عن صديق الشرب والجنون والرقص والمعاناة اليومية والبشرية، كائنٍ جدّي، لا يقبل المزاح في موضوع الكتابة، يشجع من يرغب لكنه عندما يراه يحلم ويرغب فقط دون ممارسة للقراءة والكتابة يومياً لساعات، فأسهل ما يصفه بالكاذب أمام عينيه!

سنسهر ليلة رأس السنة المقبلة كالعادة مع جميع الأصدقاء، ربما لن نجد من يرد على أغنية شيّد قصورك لشيخ إمام بعد جملة "والنصر قرّب من عينينا" ب " الله كريم"، لكننا سنرفع هذه المرّة نخب غيابك.

هذه بعض كلماتك يا خالد، أنسجها على عجل وأضيف القليل، وأشعر أن نسجها لا يليق بما أشعر وبكاتب مثلك، هذا أكثر ما أستطيع، لم أتعلم بعدُ رثاء الأحبة، ربما أجرؤ أكثر بالنسبة للغرباء.

ليفانت: لجين العرنجي

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!