الوضع المظلم
الخميس ١٤ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
ذاكرة ممتلئة ومسارات من وهم
جمال الشوفي

هل تخيلت حجم الألم حين يصل نصل سكين جوار العظم؟ هل تخيلت حجم الصراخ المنبعث من داخلك حين لا يكون أمامك سوى خيار وحيد، خيار المشي على نصل شفرة حادة تمتد أمامك طريقاً وممراً إجبارياً وحيداً؟

هكذا يكرر التاريخ، للعقد السادس، من حكم سلطة العسكر البعثية مشهد الألم السوري، وحجم الكارثة أشد بتعدد أنماط الاستبداد وطرقه وتفاصيله اليومية.

إنها مسيرة المشي على حافة الهاوية، فإن هويت يميناً تسقط بين فكي أغوال التعصب والتطرف السلطوي والديني والميليشوي، تنهش في قيمتك ووجودك، وحوش تلتبس شكل وجوه بشرية تحمل رايات سوداء من حقد البشر الأعمى، يقودها دجالو الدين وكهنة السياسة وأزلام سلطات الأمر الواقع، حاملين رماح القتل والبتر الحرام. وإن هويت يساراً تفتك بك سحق الآلة وعصر المادة المؤتمتة والتقنية وصراع الدول الكبرى على ذاتك وقيمتك التحررية، فتجد نفسك رقماً افتراضياً بدل كونك إنساناً ذا هوية وقيمة حسية واجتماعية. وما بينهما تفتك بك سلطات الأجهزة الأمنية من كل جنب، تتغذى منهما، وتمارس عليك شتّى صنوف الاستعداء والإقصاء، النفي والسحل، والاعتقال بتهمة التآمر على الوحدة والحرية والاشتراكية، وجرائم الرأي الإلكترونية، عجبي!

آلات تعذيب المعتقل في المعتقلات، وجع الأم طوال ليل انتظار وليدها أن يعود من معتقل، حضن أب لطفل مات برصاصة قناص، انهدام المنزل على أم ترضع وليدها بصاروخ فراغي، وتحار بين أن تحمل أخاه معها أو أمها العجوز من بوابة نجاة! ذهول الطفل حين تفقأ عينيه شظايا قنبلة عنقودية فيسوّد العالم أمامه فجأة، وينزف من رأسه دماً بدل الأحلام! اختلاط دم الخباز بالخبز في مخبز أصابته قذيفة مدفع ولا تملك إلا أن تطعمه لأبنائك الجوعى. مرورك على حاجز يسألك عن دينك أو بلدتك، فتهان إن أجبت وتهان أن صمت، وربما تُرمى في الصحراء جثة طعام لذئاب الليل! وقوفك العاجز والمكبل أمام إصرار ابنك على المضي في ركب مظاهرة تعلم أنه قد لا يعود منها، فلا تستطيع ردع رغبته ورغبتك بالحرية ولا تستطيع ردع شدة هلعك وخوفك المفرط من فقده.

هذه هي سوريا، والذاكرة الممتلئة لسنوات إحدى عشر.. أين تفرغها؟ ولعجب عجاب، ثمة من يقول الحل في اقتصاد التعافي! وتعافي الاقتصاد يعني حياة لمن بقي وإن كان مهاناً، وكيف يحيا من يحمل مثل هذه الذاكرة المحشوة ألماً؟

انغراز نصل الشفرة هذه في قدميك حدّ العظم، وما نصلها الطويل سوى درب الشعوب في الحرية والانعتاق الطويل والكارثي. المضي فيه للأمام ألم لا يقاوم والتراجع عنه ألم مضاعف، وبين هذا وذاك تتراكم جبال القهر والألم وتزداد مساحات الصراخ البشري، وتضيق مساحات الحلول المجزوءة، وتفريغ حمولة السوريين فيها بطرق مواربة، تبتعد عن جذر المشكلة. والمشكلة هي حكم العسكر وما جلبه من ويلات، وإصرار البعث السياسي على الاحتفال في تكرار ذكرى تحالفهما على حكم البلد بقوة العسكر والأيديولوجية الشمولية وأجهزة الأمن والمعتقلات.. ويوم التهجير والتغيير الديمغرافي، يا لها من معضلة!

هذه ذاكرة السوريين الممتلئة على آخرها، فأي الخيارات يعيشون اليوم؟ وأي الممرات سيسلكونها بعد؟ وما طبيعة الخيارات الجديدة أمامهم؟ وكيف ستعالجها ذاكرتهم الممتلئة هذه؟

ليس الموقع اليوم استعراض ذاكرة السوريين في عقد من الزمن، فقد سجلت في آلاف المقالات والتحليلات والدراسات، وحتى الوثائق الأممية المعطلة لليوم تحت مسمى ملف جرائم حرب، ولكنها محاولة أخرى للوقوف على ناصية المشهد الكارثي وطرح بعض صوره، خاصة وأن الربيع السوري يمر بموجة من الصقيع الجافة يكتنفها العزلة والحجر السياسي، ولكن...

هذه الـ "لكن" على قساوتها لازمة تحديد لما بعدها، فثمة ما يمكن تحديده في سياق عام يسمى حركة تغير جذرية عنوانها الأبرز لزوم حل سياسي عام، لا مسارات من الوهم، سواء في الحلول المبتورة الاقتصادية بصيغة اقتصاد التعافي الذي تروّج له الإسكوا، ولا الحلول التلطيفية في لجنة دستورية تقايض الوقت بترتيب المصالح الدولية، مع إصرار المبعوث الدولي، غير بيدرسون، على الترويج لها بعد كل جولة من جولاتها، بالعمل على إيجاد أواصر الثقة بين أعضائها للمرة السابعة، دون أدنى نتيجة، ولا بلقاءات أستانا في ترتيب خطوط التماس الجيوبوليتيكة! وربما يمكن أن نستقرئ المشهد بأن الحل الدولي 2254/2015 لم يكن سوى محاولة ترويض للسوريين، والترويض هو إفراغ حمولة التغيير الجذري بالمقسوم من فتات الدول في سياقات زمنية عدة، لتصبح النتيجة اليوم: تعافٍ مبكر دون تغير أي حلول اقتصادية تروّض الجوع والقشف بدلاً من الحل السياسي.

وربما بعض مبادئ فوق دستورية، هي حبر على ورق، ما دام من يقوم على سياسة الأمر الواقع هي ذات الأجهزة، ذات السلطة التي اختارت، وعن سبق إصرار وتعمّد، كل خروقات الدساتير السابقة، لترويض الشعب، فيما يبقى مسار أستانا، والذي قد يتعطل نهائياً، بفعل المتغيرات الدولية الحالية في الحرب الروسية على أوكرانيا ودور الوساطة التركية فيها، والملف النووي الإيراني، ومع هذا هو حالة مراوحة في المكان ما دامت الدول الثلاث (روسيا وتركيا وإيران)، تحافظ على نقاط التماس بينها ولم تتغير مصالحها بعد.

فالتغيير والحل السياسي ليس فقط للتخلص من الميزانيات العسكرية الكبرى، والتي تصل حد 85%، بغية التغطية على السرقات والمحسوبيات واستنزاف كامل الموارد المجتمعية لصالح السلطة العسكرية، والنتيجة حربها على المجتمع وحسب، بل لاستعادة تمكين القدرات التنموية المجتمعية في الصحة والتعلم والتعليم والقضاء والحياة المدنية والثقافية وفصلها عن سياق النظام العسكري - الأمني المهيمن والتابع معاً، وهذا مفصل يجب تثبيته عند نقاش أية حالة انتقالية، وهو جذر التعافي المبكر، وجذر تغيير ملف المفاوضات من عسكرية أستانية إلى سياسية حقوقية فعلية.

التغيير والحل السوري للخروج من عتمة الاستبداد إلى فضاء الحرية الأوسع فضاء الإبداع والإمكانيات المجتمعية المتحررة في سياق بناء الدولة الوطنية والمعتمدة على استعادة مواردها المادية المنهوبة وتوظيفها في مصلحة الكل الجمعي، لا الجماعة الحاكمة أو التي ستحكم، وليست لاقتناص سلطة وفقط لفريق دون سواه، ولمعارضة دون غيرها، خاصة تلك التي تقبع في زواريب ودهاليز أحزاب السلطة ومعارضتها الواهمة في اقتناص منجزات الثورات لليوم، وهذا جذر التعاقد الدستوري، وليس تقاسم الحصص في لجنة لا تسمن ولا تشبع من جوع.

فهل هذه الخيارات والمحددات صعبة أمام الفاعلين في الملف السوري سياسياً ومدنياً وعسكرياً؟ وماذا بقي من سلطة الحكم البعثي هذه سوى بضع شعارات رنانة، والبقاء بالسلطة بحكم توازنات الدول المحتلة؟ وإلى متى ستبقى مسارات الوهم تلك تحكم على السوريين بمضاعفة القهر والألم؟

 

ليفانت – جمال الشوفي

كاريكاتير

قطر تغلق مكاتب حماس

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!