الوضع المظلم
الخميس ٢٦ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
رياض عثمان وضرورة الفن
رياض عثمان وضرورة الفن

منذ غادرت أربيل إثر زيارة تتلاشى معها حسابات الزمن، بينما تتسع المشاعر والتأويلات بفعل آثارهما الممتدة، يحفر صوت الفنان السوري الكردي، رياض عثمان، أسفل كل طبقة في ذاكرتي.

 خفة الصوت، ونعومته، وعذوبة الفنان بحضوره الشخصي اللافت الذي يتنقل بين الغناء الكردي والعربي والمصري بمرونة، بددت كل مساحات التمييز الوهمية التي تصنعها السياسة وحدود الجغرافيا وصراعات التاريخ والسلطة. وكلما صعد غناؤه في فضاء متنوع وغني يشبه مدينته (قامشلي)، الممزوجة بالألوان، تختفي الأجساد داخل هذه الطاقة الفنية التي تهتز من النشوة.

ثمة إمكانية حقيقية للفن لمواجهة الجيوب الضيقة التي تحاصر البشر داخل غيتوهات محدودة. الفن كضرورة وفلسفة يمكن من خلاله إعادة تأويل الحياة برؤية أكثر حيوية، دون الخضوع إلى نماذج تقليدية أو قسرية. الانتماء للعالم أينما وجد الإنسان، بلا حدود أو فواصل. خوض الحياة كتجربة واختبار ورهان متجدّد. عدم توقع الحسابات والنتائج. اختبار الألم والسعادة والقلق. ذلك هو الفن الجاد.   

ذلك الانحياز الفني الذي ينبذ الأطر التقليدية، ويقفز على الجدران المشوهة، ويقاوم حراس الهياكل المقدسة والمدن القديمة المهجورة، يسعى لبناء عالم فني متخيل، حتى ولو مؤقت وعرضي، يؤكد على إمكانية اللقاء الإنساني دون تحفز سلبي وعدواني، وكذا المرور دون بطاقات هوية متآكلة. فيضحى الفن حياة محتملة لطالما تترك أثراً من الحنين على جدار ذاكرة، لا تحمل إكراهات قديمة وعصبيات وتوترات وتشنجات.

عثمان الذي غنى من التراث الكردي ثم قدّم أغانٍ مصرية وعربية، لم تباغتني مرة مشاعر غربة، حتى في ظل قدراتي المحدودة للغاية مع اللغة الكردية. وربما هذا الشعور العفوي ليس بجديد مع الفن الذي بمقدوره أن يصل إلى أقصى درجات التأثير حتى لو تجهل رموزه، لكنه قادر على بعث الحزن أو الفرح، وكل المشاعر المختلطة، لطالما كان فناً مؤثراً ويشتق حضوره من روح فنان لا يستعير حنجرة وأدوات غيره ويحاول تقليد آخرين. في ذلك المكان الذي اشتق اسمه من المثيولوجيا الإغريقية "بيرويا" الذي يخلد اسم حلب التاريخي والأثري تنوعت اللقاءات بين الغناء والنقاش الحميمي في الفن والثقافة.    


 

الفن ضرورة كما عنون الكاتب والسياسي الألماني، إرنست فيشر، أحد كتبه التي حاولت البحث في تاريخ الفن. والأديب الروسي، ليو تولستوي ذاته، عدّ الفن كذلك ضرورة. فالفن كان بمثابة الوسيلة أو بالأحرى أقدم حيل الإنسان التي تحولت لمغامرة شاقة وملهمة ولعبة جهنمية لخوض سر الحياة والبحث عن معنى الوجود. وظلّ سهماً يخترق الغموض مثل نقطة ضوء تبدد الوحشة والجمود، وتصنع حالة مشتركة وإنسانية تؤلف بين المتناقضات، عبر ذائقة إنسانية وفنية، في خلق متجدد ولا متناهٍ.

ورغم الصراعات المحمومة التي أمست تتحكم في أطراف الحياة، بينما تضغط بأعبائها على تفاصيلها، إلا أنّ عدوى الفن وتجديد التراث الإنساني في عموميته، في ذوات الآخرين، تبقى من الحوادث التي تجدّد الفعالية الوجودية بين البشر، فتنفي "الأنا" وتعيش تجربة الـ"نحن" بواسطة الفنان. هذه الذات الكلية على متنها تجد الانفعالات الإنسانية قوية لاحتمال الأذى والعنف بقدر ما تتشارك في السعادة والغضب والرضا والحزن. هذا الوجود الجماعي وإنهاء الطابع الجزئي للحياة عن طريق الفن هو ما نحتاج لتعميمه.

رياض عثمان.. هذه بطاقة مودة لفنان كردي سوري يجدد سيرة وتاريخ الفن والغناء الكردي الفلكلوري والمعاصر، رغم محاولات الهدم والتهميش. سيرة خلدت أسماء لورين البرزنجي وبافي صلاح وغني ميرزو وشهرام ناظري.

تصوير: علي بدور/ أربيل

ليفانت - كريم شفيق

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!