الوضع المظلم
الجمعة ٢٧ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
سياسة التأرجح على الحبال السورية
عبير نصر

لنبدأ بقرار الإفراج عن المعتقلين، الذي صدر بالتزامن مع الجدل الذي دار حول الفيديو الذي كشفت عنه صحيفة الغارديان البريطانية لمجزرة حيّ التضامن. قرار لم يكن في حقيقة الأمر سوى تلميع لصورة بشار الأسد التي لطالما ارتبطت بانتهاكات حقوق الإنسان، فيما حذّر مراقبون من أن يكون الهدف من إصدار هذا المرسوم الرئاسي "المراوغ" هو "الإيقاع بالمعارضين السوريين، واستدراجهم للعودة للبلاد" على حدّ تعبيرهم.

تأسيساً على هذا المثال، لجأ البعثيون منذ أيامهم الباكرة إلى ما يمكن تسميته بـ"سياسة التأرجح"، والعمل الدؤوب على صنع حالة بارانويا عامة، بحيث يشكّ عموم المحكومين بمؤامراتٍ متنوعة تعتمل حولهم، ليكون كلّ واحد منهم مشروع متّهم في وطنيته، ويكون العالم من حوله مكاناً شريراً خطراً ينبغي الحذر وعدم الوثوق به. المراوغة ليست اختراعاً سورياً، ولا بعثياً. للأمر صلة على الأرجح بضعف تشكل القوى الاجتماعية، وبحاجتها إلى ترميم ذاتها بالعقائد المعصومة والأفكار السامية المجردة. لكن "المراوغة وأخواتها"، وهي من سياسات السير على الحبل بعصا ثابتة، ارتفعت في سوريا البعثية إلى مرتبة سياسة دولة، وبلغت ذرى غير مسبوقة من انفصال الخطاب المعلن عن الواقع المعاين وممكناته. إذ ظلّ الحكم البعثي، على سبيل الذكر، يزايد في مواجهة إسرائيل حتى تسبّب بهزيمة حزيران الفاجعة، وظلّ يزايد على الجميع وطنياً وقومياً واشتراكياً، وهو يمزّق المجتمع السوري، ويضرب الفلسطينيين واللبنانيين، ويُثري أتباعه، ويتسبّب في تأخر وجمود ما كان واحداً من أكثر المجتمعات العربية حضارة وتقدماً.

ولعلّ أقرب حراك سياسي سوري - دولي يؤكد ما سبق، تجديد الأسد شروطه لإعادة العلاقات إلى سابق عهدها مع الجانب التركي، في أول ردّ رسمي تجاه المبادرة التركية الهادفة لتطبيع العلاقات برعايةٍ روسية، بعد عقدٍ ملتهب من الخلافات الشائكة بين الطرفين. وقال وزير خارجية النظام السوري، في مؤتمر صحفي مع نظيره الروسي في العاصمة الروسية، في سياق تعليقه على تطبيع العلاقات مع أنقرة: "نؤكد على المبادرات التي تقوم بها روسيا وإيران لإصلاح ذات البين بين سوريا وتركيا، ولكن يجب أن يكون على أساس احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤون سوريا، ووقف دعم المسلحين والانسحاب من الأراضي السورية، وحلّ قضايا المياه".

بطبيعة الحال جميع الأطراف الفاعلة على الساحة السورية تجيد لعبة التأرجح على الحبال. في السياق تطرقت صحيفة الغارديان البريطانية إلى التصريحات الأخيرة للرئيس التركي وعدد من المسؤولين الأتراك، وقالت إنهم غيّروا خطابهم بشكل ملحوظ تجاه الأسد، زاعمين أنه "لا يمكن قطع الحوار السياسي أو الدبلوماسية بين الدول". وأشارت إلى أن تصريحات أردوغان كانت أوضح إشارة حتى الآن على أنّ تركيا شرعت في سياسةٍ جديدة تهدف إلى تحقيق الاستقرار في مناطق الأسد، بعد أن كانت من أبرز المؤيدين الإقليميين للإطاحة به لأكثر من عقدٍ من الزمان.

وذكرت الصحيفة أنّ ذلك تزامن مع عشية الذكرى التاسعة لأكبر جريمة ارتكبها الأسد بحقّ السوريين، حينما قتل ما يقرب من 1300 مدني بريف دمشق بقذائف السارين في 21 أغسطس/ آب 2013. وأشارت إلى أنّ روسيا وإيران دفعتا الأسد لتدمير سوريا، لتحقيق نصر في ساحات القتال، موضحة أنهما إلى جانب تركيا يمتلكون حصة بارزة في بلد ممزّق، حيث ما تزال أجزاء كبيرة من المناطق خارج سيطرة حكومة أسد. ولفتت الغارديان الانتباه إلى الغارات الجوية الروسية التي استهدفت 13 موقعاً مختلفاً في محافظة إدلب، مشيرة إلى أنها من بين الأشد كثافة منذ الغزو الروسي لأوكرانيا. وذكرت أنه بالرغم من معارضة أردوغان بشدة في السنوات الأخيرة القصف الروسي على إدلب، حيث كان لتركيا نفوذاً كبيراً على مدى العامين الماضيين، إلا أنّ الهجمات الجديدة لم تلقَ أيّ رد فعل من أنقرة، التي اقتربت أكثر من رؤية فلاديمير بوتين للحلّ في سوريا في الأشهر الأخيرة.

وبعنوان (أردوغان يغازل النظام في دمشق)، بدورها، بيّنت صحيفة  "لوفيغارو" الفرنسية أنّ أنقرة لم تعُدْ تستبعد فكرة الاقتراب من الأسد بعد سنين من المقاطعة ودعمها للمعارضة التي تطالب برحيله ومحاسبته، كما أنّ تصريحات وزير خارجيتها التي تطالب بالمصالحة بين الطرفين أحدثت مفاجأة في تغيّر السياسة التركية تجاه الأسد. وأشارت الصحيفة إلى أنّ السياسة الجديدة لأنقرة تزامنت مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية عام 2023، في وقت تمرّ فيه البلاد بأزمة مالية غير مسبوقة منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002. ولفتت إلى أنّ عدم الوصول إلى حلّ في سوريا من قبل المجتمع الدولي، والغضب الداخلي بين المواطنين الأتراك من وجود اللاجئين السوريين مدة طويلة في بلادهم، جعل القيادة التركية بضغط من حلفائها، ولا سيما حزب الحركة القومية بقيادة "دولت بهتشلي"، تراجع سياستها تجاه الأسد.

على صعيد متصل، زعمت الخارجية الأمريكية، الزئبقية المواقف كعادتها، التزامها بمحاسبة مرتكبي المجازر السورية التي وصفتها بالمأساوية، دون توضيح متى أو كيف أو حتى وضع آلية حقيقية للمحاسبة التي تدّعيها، مكتفية بالقول إنه لن يتمكن الأسد والضالعون معه من الإفلات من العقاب بعد استخدامهم الأسلحة الكيماوية، وستقوم واشنطن باستعمال جميع الأدوات المتاحة لتعزيز المساءلة عن مثل هذه الهجمات. وفي خطوة اعتبرها محللون مثيرة للسخرية، طالبت الخارجية الأمريكية من سمّته "نظام الأسد" بالإعلان والكشف عن أسلحته الكيماوية وتدميرها وفقاً لالتزاماته الدولية، موضحة أنه يجب عليه السماح لفريق تقييم إعلان منظمة حظر الأسلحة الكيماوية بالوصول للبلاد وحلّ جميع المخاوف المتبقية بشأنها.

لا شكّ يحرص العالم بأسره على إطالة أمد الأزمة السورية، بينما ثمّة ألاعيب سياسيّة تجاوزها الزمن. فالعصا الوحيدة في سياسة "السير على الحبال السورية"، والتي استخدمتها الدول التي تعارض النظام السوري هي العقوبات الاقتصادية أحادية الجانب، ما سمح لحلفاء الأسد الرئيسين، بمواصلة دعمه دون أية عوائق. العقوبات تجعله يزداد ثراءً بوتيرة أبطأ. أو ربما يصبح أفقر بالفعل. لكنه يستطيع أن يتجاوزها، كما فعل هو ووالده منذ عقود، تاركاً المدنيين يتحملون العبء الأكبر. على النقيض من ذلك، فإنّ التسوية السياسية للصراع السوري ستكون كارثية بالنسبة للأسد، حيث إنّ قبول أيّ نوع من المصالحة السياسية سوف يؤدي في النهاية إلى الإطاحة به لكونه، ببساطة، لا يتمتع بشعبية.

وعليه سياسة التأرجح التي اتبعها "الأسد" تبقى الثقل الوازن لنظامٍ كثير العضلات، وكثير الألسنة أيضاً، لا يكفّ عن الكلام، والتي لطالما دفعته إلى كسر المحظور، وتعريته أمام قاعدته الشعبية التي تتغنّى بـ"ممانعته". وما كان في الماضي يُوصف بالخيانة عند "محور الممانعة" قد يتحول مع الوقت إلى "محور السلام"، دون أو مع "شيطنة" النهج السابق، وكأنما هي حالة "براغماتية" لإسكات بعض الأصوات التي قد ترفض ذلك، إن ارتفعت. صفوة القول إنه كان لا بدّ لحبل الأرجوحة أن يخنق الأسد وحلفائه، لولا أنّ المعارضة السورية لا تجيد اللعب ولا التأرجح، وإنما تتأمل استعراض البهلوان، ولا تطمح أبعد من أن تدخل خيمة اللعبة/ السيرك، بعد حصولها على بطاقة "مشارك"، فيما يبدو أنّ الأسد يحاول إعادة تسويق نفسه كرجل الحرب والسلم معاً.

ليفانت - عبير نصر

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!