الوضع المظلم
الإثنين ١١ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
على مسرحِ الجريمة المنظّمة
عبير نصر

الجميع يتفق على أنّ سوريا هي قلب العالم، ومهد حضارات عظيمة ومؤثّرة في العالمين القديم والحديث، امتدّت من الكنعانيين والفينيقيين، وصولاً إلى الأمويين، مروراً باليونانيين والرومان والبيزنطيين. وليس ثمّة منطقة في سوريا لا تحوي من خزائن التاريخ وكنوزه ما يشير إلى كلّ هؤلاء، ابتداءً من تدمر والرقة وحلب واللاذقية وطرطوس شمالاً، إلى دمشق ودرعا وباقي الجنوب السوري. لذا من الطبيعي أن تكون الآثار إحدى أبرز ضحايا الحرب السورية، حيث تعرضت الكثير من المواقع والمتاحف للتنقيب والنهب.

ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل بعض الجهات الفاعلة دمرت مواقع أثرية يعود عمرها لأكثر من ألفي سنة. إضافةً إلى التدمير والنهب العلنيّ، قام لصوص التاريخ، وبوقاحة مستفزّة، بعرض القطع الأثريّة المسروقة علناً في صفحات موقعي "تويتر" و"فيسبوك"، تحت عنوان "آثار للبيع في سوريا". وقامت صحيفة "ديلي ميل" البريطانية، بدورها، بعرض صورٍ مأخوذة من موقع "ebay" المعروف، والذي يعرض قطعاً أثرية للبيع بمبالغ زهيدة، مع إشارة إلى مصدر القطع الذي يعود إلى العراق، وسوريا بالطبع.

فعند زيارة متحف "اللوفر" في باريس مثلاً، يمكنك أن ترى قاعة كبيرة تحتوي آثاراً من مدينة تدمر السورية، معروضة في خزائن زجاجية. كذلك، هناك قطع أثرية سورية مختلفة نراها في معاهد عالمية، مثل معهد "سميثسونيان" للفنون، ومخطوط قرآني سوري موجود في معرض "فرير آند ساكلر" يعود إلى القرن التاسع للميلاد. أمّا في الولايات المتحدة، فيمكن رؤية فانوس أثري يعود إلى مدينة الرقة السورية في متحف "ميتروبوليتان" للفنون في نيويورك. وهناك آثار سورية أخرى معروضة في متحف "بيرغامون" في ألمانيا، وفي جامعة "ييل" في أميركا، وفي متحف الكابيتول في إيطاليا، والمتحف الأشمولي في أكسفورد، وأيضاً في معارض لوس أنجلوس وعشرات المتاحف الأخرى.

على صعيد متصل.. لا يخفى على أحد أنه، وعلى مدار عقود، شهد نظام الأسد حالةَ تسابقٍ وتنافس محموم بين ضباط أمنه الكبار، للسيطرة على مقدّرات البلاد الأثرية، مما جعلها أبرز أسباب ثروتهم. حيث إنّ أهم سرقات الآثار وأغلاها ثمناً، تمت قبل 2011، ولعلّ خير مثال، توقيف مزاد بيع النصب الآشوري بمبلغ مليون دولار، في مركز بورهنس بلندن، الذي تمت سرقته وتهريبه عام 2000.

هذا بالضرورة يأخذنا باتجاه الحديث عن لوحة الفسيفساء الأثرية التي أُعلن العثور عليها مؤخراً بمدينة الرستن الواقعة شمالي محافظة حمص. والرستن مملكة أريتوزا في العصر الروماني، وذُكرت في النصوص في القرن الرابع الميلادي. فيما أبدى كثيرٌ من السوريين مخاوفهم من أن يتمّ نهبها وبيعها كما حدث للعديد من القطع الأثرية السورية. خاصة أنّ مدير التنقيب والدراسات الأثرية في المديرية العامة للآثار والمتاحف بحمص، اعترف بأنّ المديرية تعلم منذ سيطرة النظام السوري على الرستن عام 2018 بوجود اللوحة الأثرية ولوحات أخرى، وسبق أن كشفت عنها، بل وقامت بردمها وحفرها عدة مرات. وبرّر ذلك بالحفاظ على اللوحة، وضرورة استملاك المكان، لإجراء عمليات التنقيب بشكل أفضل، رغم أن ميليشيات الأسد اعتادت وضع يدها على أيّ عقار يحتوي آثاراً دون انتظار أيّ موافقة من أحد، وحتى دون انتظار تعويض مالكيه.

تاسيساً على ما تقدّم، ليس من المستبعد أن يتم سرقة اللوحة، التي اتفق أنْ لا مثيل لها في العالم، خاصة أنّ تقارير تفيد بأن أكبر المتورطين في نهب الآثار السورية هو نظام الأسد نفسه. ووفق تأكيد المؤرخ العالمي "أندرياس كيلب"، أنّ تهريب الآثار السورية والإتجار بها كان من اختصاص رفعت الأسد في ثمانينيات القرن الماضي، الذي خرج من سوريا بثروة هائلة، وورث ماهر وبشرى الأسد مهنة العمّ، لتزدهر قبل اندلاع الثورة وخلالها، وتصبح حكراً على آل الأسد. ويقول عالم الآثار الإسباني "رودريغو مارتن" الذي قاد العديد من بعثات التنقيب في سوريا: "الحقائق تبين أنّ الحكومة السورية تعمل مباشرة ضد التراث التاريخي للبلاد".

وفي الحقيقة، لم يقتصر نهب الآثار على نظام الأسد، بل امتد إلى الميليشيات الحليفة. حيث شاركت شركات إيرانية خاصة بالتنقيب عن الآثار في تدمر، بالإضافة إلى البحث في /16/ موقع أثري في درعا وبحماية الفرقة الرابعة. ويتخوّف سوريون من مشاركة مسؤولين عن متاحف روسية بترميم الآثار السورية، بعدما اتفقت إدارة متحف "الأرميتاج" الروسي مع هيئة المتاحف والآثار التابعة للنظام على نقل آثارٍ سورية إلى روسيا بحجة إعادة ترميمها. تأتي المبادرة من المتحف الروسي في الوقت الذي ألحقت فيه طائرات روسية ضرراً بعدة مواقع أثرية بعد استهدافها بالصواريخ والبراميل المتفجرة. في السياق كشفت تقارير سابقة عن وجود مافيات روسية على أرض تدمر حمت خطوط التهريب للآثار التدمرية وغيرها، عبر شخصيات روسية نافذة من ضباط خبراء تفكيك المفخخات. وكانت، حينها، تمنع دخولَ خبراتٍ دولية جاءت للكشف عن الأضرار التي قامت بها عصابات تنظيم الدولة.
 
بطبيعة الحال كانت سوريا طوال عقود مسرحاً لمثل هذه التعديات السافرة على التراث التاريخي والإنساني، مصحوبة بتحقيقات "كاريكاتورية" تجري إثر السرقات الكبرى للمدن التاريخية. حيث كان السارق المحمي بسلطة الأمر الواقع ينقل الأحجار الأثرية الضخمة، والتماثيل الإنسانية، وتيجان الأعمدة التي يبلغ وزنها مئات الأطنان. تُنقل بالرافعات وتُهرّب عبر المنافذ الحدودية. وإنّ ألقي القبض على المنفذين يبقى صاحب الأمر بمنأى عن أيّ محاسبة أو ملاحقة. وعليه نوّه أشهر مصوري الآثار في سوريا إلى أن هناك تنافساً واضحاً وتنازعاً جلياً على تقاسم مناطق السيطرة والنفوذ بين جهات الاحتلال الثلاث: "عصابة النظام الأسدي، الذي يفتقر لأي معايير وطنية، وعصابات الحشود الطائفية الإيرانية، التي بدأت منذ زمن بتأسيس مزارات وهمية ومدارس عقائدية دينية، تستحضر التاريخ الدموي لأوهام الانتقام المذهبي، وأخيراً مناطق النفوذ الحربي والعسكري الروسي وما يرافقه من دعاية إعلامية روسية، الهدف منها منح التدخل الروسي أغطية أخرى تتعلق بالتنقيب عن الآثار، وبعض أعمال الترميم، أو ادعاء الإشراف عليها.
 
يجدر الإشارة إلى أنّ منظمة اليونسكو أدرجت ستة مواقع أثرية سورية على لائحة التراث العالمي، وهي أحياء دمشق القديمة، وحلب القديمة التي تُعتبر أقدم مستوطنة بشرية موجودة حالياً بالعالم، وواحدة من أكبر المراكز الدينية بالعالم القديم، وقلعة المضيق، وقلعة الحصن، ومدينة بصرى القديمة، ومدينة تدمر، والقرى الأثرية شمالي وشمال غربي البلاد، التي تضم مئات الأديرة والكنائس القديمة. وتؤكد منظمة اليونسكو أنّ عمليات التنقيب والنهب تجري في مواقع أثرية مهمة، مثل مدينة ماري السومرية، ومدن إيبلا، وتدمر الصحراوية، وأفاميا التي "دُمرت تماماً".

وتصف عمليات التنقيب هذه بالأمر "الخطير والمدمر للغاية" بعدما ثبتت العلاقة الواضحة بين نهب المواقع الأثرية والتهرّب الضريبي وغسيل الأموال، حيث لا يمكن تقدير الربح العائد من الأعمال الفنية المسروقة أو المهرّبة بشكل موثوق، ولكن الخبراء يتفقون على أنه يمثل واحداً من أكبر شركات العالم اللا مشروعة، والتي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، وهو ما يغري هذه الجريمة المنظمة في سوريا التي تلفظ أنفاسها الأخيرة، بعدما باتت ركاماً من الخراب والجثث والمقابر الجماعية، وبحاجة إلى عقودٍ كي يُستعاد بعضٌ مما كانت عليه.

ليفانت - عبير نصر

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!