-
عندما يكون الخلاص قيداً: معادلة الولاءات المشروطة
منذ انطلاق ثورات الربيع العربي ، و أخص هنا الثورة السورية عام 2011، شهدت المنطقة تحولات جذرية وتحولت إلى ساحة صراع إقليمي ودولي، حيث برزت قوى كبرى توجه الأحداث بما يخدم مصالحها.
وبينما كانت الشعوب الثائرة تسعى لتحقيق الحرية والكرامة، كانت الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى تُعيد ترتيب الأوراق لتأمين مصالحها الاستراتيجية في الشرق الأوسط، وأهمها "حماية أمن إسرائيل " وضمان استقرار المنطقة بما يتماشى مع رؤيتها طويلة المدى.
في هذا السياق، لعبت واشنطن دوراً مزدوجاً. فمن جهة، منعت انتصار الثورة السورية سريعاً بإفساح المجال لإيران وميليشياتها للتدخل العميق في سوريا، مما أسهم في تمزيق المجتمع السوري وتشريد الملايين. ومن جهة أخرى، بدأت تحركاً تدريجياً يهدف إلى تقليص النفوذ الإيراني في المنطقة، لكن هذه التحركات ليست بريئة، بل تُعد جزءاً من مخطط أوسع لصناعة الولاءات الجديدة وتثبيت الهيمنة الأمريكية.
بدا واضحاً منذ البداية أن الولايات المتحدة تتبع سياسة مكيافيلية: "اصنع لعدوك أزمة، ثم مد يدك لتخلصه منها، فيصبح ولاؤه لك" .
تم السماح لإيران وميليشياتها بالتوسع في المنطقة، تحت ذريعة محاربة الإرهاب والحفاظ على الاستقرار. هذا التوسع أدى إلى أزمة وجودية لسكان المنطقة، خاصة الطائفة السنية، التي وجدت نفسها في مواجهة حتمية مع هذا التدخل. ومع كل خطوة، كانت الولايات المتحدة تُعزز الفوضى وتُمهّد لخطوتها التالية.
إضافة إلى ذلك، لم يكن هدف الولايات المتحدة مجرد تحييد إيران، بل " إذلالها " أيضًا على يد إسرائيل ، حيث سعت من خلال مواجهتها لإيران إلى إشعار الشعوب المقهورة، التي لم تنل حريتها عبر الثورات، بنشوة "انتصار وهمي" على عدوها الإيراني. هذا الشعور بالنصر الذي تسعى الولايات المتحدة إلى تسويقه لا يعوض عن انتصار الثورات الحقيقية، بل يُستخدم كأداة لتوجيه الغضب الشعبي بعيداً عن الأنظمة الاستبدادية وإعادة توجيه الولاءات وفق المخطط الأمريكي.
ما تفعله الولايات المتحدة اليوم ليس فقط طرد إيران وميليشياتها من سوريا ولبنان والعراق واليمن، بل " إذلال إيران " أمام العالم والشعوب العربية. تريد واشنطن أن يرى الناس سقوط إيران كنوع من التعويض عن فشل الثورات في تحقيق الحرية، ما يخلق شعوراً وهمياً بالانتصار والرضا. لكن هذا الانتصار ليس سوى " بديل مصطنع " للتغيير الحقيقي الذي تسعى إليه الشعوب.
إلى جانب ذلك، تعمل الولايات المتحدة على استخدام " القوة المفرطة " لترهيب شعوب المنطقة. فالأحداث الأخيرة في المنطقة تُظهر أن من لا يقبل بالمخططات الأمريكية سيواجه نفس القوة الوحشية التي تمارسها واشنطن ضد خصومها. من خلال الضربات العسكرية وحملات التصعيد، تُظهر الولايات المتحدة أنها لن تتهاون مع أي قوة أو جماعة تعارض رؤيتها للمنطقة. وبالتالي، تُرهب الشعوب وتُجبرها على " قبول الهيمنة الأمريكية " والاعتراف بإسرائيل كحليف ضد إيران.
تقدم الولايات المتحدة نفسها اليوم على أنها المنقذ من الخطر الإيراني الذي أفسحت له المجال للتغوّل و منعت الانتصار عليه، لكنها في الحقيقة تعمل على " إعادة تشكيل الولاءات " فالهدف من طرد إيران ليس تحقيق استقرار حقيقي للمنطقة، بل " إعادة توجيه التحالفات " بما يخدم مصالح واشنطن وتثبيت النفوذ الإسرائيلي. ومن خلال تقديم نفسها كحامي المنطقة من النفوذ الإيراني، تُحاول الولايات المتحدة فرض واقع جديد يجعل من إسرائيل جزءاً طبيعياً من التحالفات الإقليمية.
الاستراتيجية الأمريكية تعتمد على " إدارة الأزمات " وليس حلها، إذ تعمل على خلق فراغات لتملأها وفقاً لمصالحها. في البداية، دعمت توسع إيران وميليشياتها، والآن تتظاهر بأنها تعمل على محاربة هذا النفوذ، لكنها تُقدم الحل في إطار قبول شعوب المنطقة بـ " الاحتلال الصهيوني " كجزء من المعادلة الأمنية والسياسية الجديدة.
اليوم، ونحن أمام هذا المشهد المعقد، من المهم أن تدرك الشعوب العربية والنخب السياسية أن الولايات المتحدة لا تسعى لتحقيق سلام حقيقي أو استقرار للمنطقة. ما يجري ليس إلا إعادة رسم لخرائط النفوذ والولاءات بما يخدم مصالحها. لا يجب أن نكرس الدعم الأمريكي في طرد إيران كمدخل للولاء للولايات المتحدة أو التحالف مع إسرائيل، بل يجب أن يكون هدفنا " الاستقلال الكامل " بعيداً عن أي تبعية لأجندات خارجية.
إن " القوة المفرطة " التي تستخدمها الولايات المتحدة ضد أعدائها تُظهر أنها مستعدة لقمع أي محاولة للخروج عن مخططاتها. الشعوب يجب أن تدرك أن المعركة الحقيقية ليست ضد إيران فقط التي نفرح لدمارها هي و ميليشياتها ، بل أيضاً ضد كافة أشكال الهيمنة الأجنبية. علينا أن نكون يقظين ونتجنب الانجرار وراء "انتصارات مصطنعة" تُقدم لنا كتعويض عن انتصارات الثورات المفقودة.
تُدير الولايات المتحدة أزمات المنطقة بمهارة لتعيد توجيه الولاءات بما يخدم مصالحها، مستخدمة القوة المفرطة والإذلال كأدوات للترهيب والتلاعب بالشعوب. لكن المقاومة الحقيقية تأتي من " الوعي الشعبي " الذي يرفض الوقوع في فخاخ الولاءات المشبوهة، ويعمل على بناء استقلال حقيقي بعيداً عن أي قوة خارجية تسعى للسيطرة على مقدرات الأمة. " النصر الحقيقي " لا يتحقق بإذلال الأعداء أو بالتحالفات الظرفية فقط ، بل عبر تحقيق الحرية والكرامة للشعوب الثائرة.
ليفانت: نايف شعبان
قد تحب أيضا
كاريكاتير
قطر تغلق مكاتب حماس
- November 11, 2024
قطر تغلق مكاتب حماس
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!