-
عن رغبة تركيا في إعادة إعمار المجتمع الحدودي السوري
يروي البروفسور التركي، إسماعيل بيشكجي، في معرض حديثه عن مشروع شرق الأناضول في كتابه؛ كردستان مستعمرة دولية، أن توسيع نطاق التجارة وتنمية الصناعة سيلعب دوراً مهماً في نشر اللغة التركية وتقويض اللغة الكردية، كما أنها ستؤدي إلى صهر سكان تلك المنطقة، الكردية بطبيعة الحال، وإدماجهم مع سكان البِلاد الأتراك.
كان مشروع شرق الأناضول التركي، البوابة التركية الحديثة، نحو صهر الهوية الكردية ضمن محددات الهوية التركية، عبر تدمير المدن والأماكن التاريخية الكردية في تلك المنطقة وتحويلها إلى منطقة مائية ومنطقة سدود، والترويج للغة التركية مقابل إشاعة أن اللغة الكردية لغة بدائية، وبناء مدن حديثة ونوعية تُفقد المنطقة هويتها التراثية والتاريخية الكردية، وزج الكرد ضمن الهوية التركية في العمل والجامعة والوظيفة، وكل المحددات الاقتصادية الأهم بالنسبة للأفراد.
وكان أول ما قام بطرحه الرئيس التركي، رجب طيّب أردوغان، خلال مكالمة هاتفية مع الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، وقت بدء مشاورات المنطقة الآمنة، هو أن تتولى شركة الإسكان التركية مشاريع إعادة إعمار منطقة شرقي الفرات، مقابل حديثه المتكرر حول نيته توطين مليون لاجئ سوري "من غير أبناء المنطقة".
والحال في ذلك أن تركيا سيكون بوسعها أن تقوم بتأسيس مدن حديثة في الحدود الإدارية التي صارت تفصل بين المقاطعات الكرديّة، لتعيق أي تواصل كردي مستقبلاً، أو فيدرالية تكون فيها الجماعة الكردية جزء من بنيتها السياسية والمجتمعية.
وللوصول إلى ذلك فإن تركيا لا يمكنها أن تعتمد على سكان المنطقة الأصليين من العرب والسريان، ذلك لأنهم يملكون علاقات مجتمعية وسياسية جيدة مع الكرد، فضلاً عن أنهم في الأساس من أبناء تلك الجغرافية، وبالتالي فإن السعي نحو هذا الهدف، بالضرورة، يعني أن تقوم تركيا بالاعتماد، أولاً، على اللاجئين السوريين في تركيا، أو على النازحين في المناطق التي تحتلها، وغالباً ما ستكون هذه الجماعات البشرية هي من التي تتبنى منهجية الإخوان المسلمين للحل في سوريا.
وفي مطلق الأحوال، خطورة توطين اللاجئين تكمن في أن تركيا ترغب في أن تعيد إعمار وتأهيل المجتمع الحدودي في المنطقة الكردية، في تبديل سكّانها ولغاتها وحيواتها المجتمعية، كما قامت سابقاً، بذريعة حزب العمال الكردستاني، بإعادة تأهيل سكاني لمنطقة غربي الفرات، وماتزال، وقامت بتوطين مئات الآلاف من العرب والتركمان في القرى والبلدات والمدن الكردية هناك، مخيمات واستيطان.
زِد على ذلك، قيامها فرض اللغتين التركية والعربية، كلغات رسمية في تلك المناطق التي قامت بتوطين غير الكرد فيها، بحيث يصير الكرد، وحيواتهم، مع التقادم، جزءاً من الهوية العربية أو التركية.
وما يعزّز من إحتمالية هذه الفرضية، هو قيام تركيا، سابقاً، عبر ذراعها السوري من جماعة الإخوان المسلمين، بتأسيس جمعيات سكنية لأهالي الغوطة الشرقية وحمص، الذين استوطنوا منازل الكرد في مدينة عفرين المحتلة، وقيامها، تدريجياً، مع شركات سكنية بتحويل المخيمات المحيطة بتلك المنطقة إلى تجمعات سكنية دائماً. لتصير الحدود الإدارية بين مقاطعتي كوباني وعفرين، ذات كثافة بشرية غير كردية، وموالية لتركيا.
خلّفت عملية غصن الزيتون التي قادتها تركيا مع فصائل إسلامية سوريا موالية لها، تهجير أكثر من 300 ألف كردي من منازلهم في منطقة عفرين. مقابل الأمر، نجحت تركيا عبر الاتفاق مع روسيا- إيران- النظام السوري، بنقل عشرات الآلاف من المناطق السورية المختلفة، واستوطنتهم في منازل الكرد في تلك المنطقة، سبقتها عمليات مماثلة من غرفة عمليات درع الفرات في ريف الباب الشمالي وجرابلس وإعزاز.
بالعودة إلى القضية الكردية في سوريا، فأن الأنظمة السورية المتعاقبة، حولت الإقليم الكردستاني- السوري، إلى ثلاث أقاليم غير متصلة جغرافياً، بعكس ما كانت عليه عبر التاريخ. سيّرت الأنظمة السورية منذ خروج قوات الانتداب الفرنسي من سوريا، وتأسيس الجمهورية السورية، برامج استيعاب وسياسات إدارية أفضت إلى أن يصير الإقليم الكردستاني مشتتاً، بين ثلاث محافظات سورية، ذات كثافة سكانية عربية.
كانت التقسيمات الإدارية للمحافظات السورية جزء من سياسة تقسيم المنطقة الكردستانية في محافظات ذات كثافة سكانية عربية، وبالتالي أن تكون كفّة الوجود العربي مجتمعياً وجغرافياً أعلى من الوجود الكردي. فمنطقة عفرين وكوباني أُلحقت بمحافظة حلب، رغم أن الكثافة السكانية لتلك المناطق كبيرة، ويمكنها أن تكون محافظات إدارية مستقلة، وفقاً لطبيعتها الجغرافية والعشائرية السكانية، فسكان منطقة إعزاز والراعي وريف الباب الشمالي من الكرد، مرتبطون عائلياً وجغرافياً بمنطقة عفرين، وسكان جرابلس وتل أبيض مرتبطين عشائرياً وجغرافياً بكوباني.
وكما ألحقت الحكومات السورية مساحات جغرافية ذات كثافة سكانية عربية بمحافظة الحسكة، لتخفض من الكثافة السكانية الكردية، حيث ألحقت منطقة مركدة، على سبيل المثال، بالحسكة، وهي الأقرب جغرافياً وعشائرياً لمركز محافظة دير الزور، ولم تكن، سابقاً، جزء من الجزيرة العليا.
وإضافة إلى ذلك، سيّر النظام السوري، وقبله الحكومات السورية، برامج تعريب ممنهجة ضدّ المنطقة الكردستانية، عبر تغيير أسماء المدن والقرى الكردية، ورفض تسجيل الأباء أسماء أبناءهم باللغة الكردية، حتّى أنه قبل حكم حافظ الأسد لسوريا، كان سماع أغنية كردية، تقود الكردي إلى الاعتقال والسجن.
وعليه، فإن المشكلة الكردية في سوريا، مشكلة جغرافية وتاريخية، وليست مرتبطة بحقوق لغوية وثقافية ومجتمعية، كما تقرّها أحاديث المعارضة السورية والنظام السوري، والدول الإقليمية، إيران وتركيا. تركيا التي تكمل مشروع التشتيت المجتمعي الكردي، ضمن ما تبقّى من الأقاليم الثلاث، بعدما فرّقتها سياسات الأنظمة السورية.
وليس أمام تركيا خيارات إضافية في هذا الملف. التمسّك بالتعصّب العرقي التركي، يقابله إزالة العرق الكردي، أو استيعابه ضمن الهوية العرقية التركية، في ظلّ غياب مجتمع دولي رادع، فإنّ المتخيّلة التركية التي تُخطط لشرق الفرات، وغربها، ستُنهي وجود الأقليات في سوريا، ذاك أن الدخول للمنطقة، بطبيعة الحال، يعني أن مشروع إعادة الهيكلية المجتمعية الحدودية السورية مع تركيا، واقع حال.
وعلى العموم فإن الوجود التركي ضمن خطّة المنطقة الآمنة شمال سوريا سيكون مؤذياً للأقليات، الكردية- السريانية الآشورية، المسيحيين والكرد الإيزيديين، وقسم واسع من العرب، لأنّ هذا الوجود سيُضاف إلى نتائجه إزالة المجتمع الكردي ومجتمعات الأقليات الثانية في تلك المنطقة. ليس ثمّة ما هو أخطر من الوجود التركي في شرقي الفرات، لأنه يعني أن يتحوّل الوجود الكردي المجتمعي شمالي سوريا إلى وجود زائل. اختصاراً، تركيا لن تترك المجال أمام الكرد للحياة، ولا تؤيّد أن تُخلق فرصة لهم فيها.
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
قطر تغلق مكاتب حماس
- November 11, 2024
قطر تغلق مكاتب حماس
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!