-
هل يدفع أردوغان للحرب أم للتسوية؟
ويأتي هذا التصعيد بذريعة عدم التزام موسكو وواشنطن ببنود الاتفاقيات العسكرية التي وقعتا مع أنقرة حول انسحاب قوات سوريا الديمقراطية إلى حدود ٣٢ كم على طول الشريط الحدودي مع تركيا بعد احتلالها لسري كانيه (رأس العين) وتل أبيض (كري سبي) في ٢٠١٩، ومع زيادة الضغوطات الداخلية والخارجية التي يتعرّض لها الرئيس أردوغان، يلجأ مرة أخرى للاحتماء بملف "حماية أمن تركيا القومي"، مع فارق أن الضغوطات الخارجية تشغل حيزاً أكبر لديه، فالضغط الروسي عليه في إدلب مثلاً لا يقابله تصريحات غريمه، كليشدار أوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهوري، حول طريقة إدارته للبلاد، ولا يذكر حجم الاستياء الشعبي من تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد بالمقارنة مع استياء أردوغان من موقف الإدارة الأمريكية، بعد مجيء الرئيس جو بايدن، في سوريا.
تحاول تركيا ما أمكن الاستفادة من التناقضات الدولية حول سوريا، خاصة بين روسيا وأمريكا، فسبق لها أن قايضت شرق مدينة حلب مقابل دخولها في منطقة الباب وجرابلس بعملية سميت "درع الفرات"، ثم عزّزت وجودها داخل الأراضي السورية بمقايضة الغوطة الشرقية مع منطقة عفرين ذات الأغلبية الساحقة الكردية عبر عملية "غصن الزيتون"، واستفادت من سياسة الإدارة الأمريكية السابقة حول سوريا في عهد الرئيس ترامب، وقامت بعملية "نبع السلام" بمكالمة هاتفية مقابل لا شيء.
يبدو أن الرئيس أردوغان يفكر مجدداً في هذا المنحى، من خلال عرض إدلب على طاولة النظام وروسيا مقابل الدخول في تل رفعت وبعض المناطق الحدودية البعيدة عن تواجد القوات الأمريكية والقريبة من القوات الروسية، إلا أن المؤشرات لا تشي بذلك، بالرغم من الحشود العسكرية التي قامت بها تركيا والإيحاء بقيامها بعمل عسكري وشيك ضد قسد. فليس بمقدور تركيا المغامرة مع روسيا قبل التوصّل إلى تسوية نهائية معها في إدلب، ولا باستطاعتها تحدي الموقف الأمريكي الرافض حتى الآن لأي تدخل عسكري يزعزع أمن واستقرار المنطقة، ولكن لا يمكن أيضاً تجاهل دور تركيا الإقليمي، وحجم نفوذها ومصالحها كدولة تمتلك من الأوراق ما يكفي لتثبت أنّها قادرة على التحرّك وحيدة "لحماية أمنها القومي دون موافقة أحد"، كما يقول رئيسها مراراً.
لاشك أن إقدام أنقرة على أي فعل عسكري جديد في الشمال السوري بحجة "محاربة الإرهاب" دون موافقة واشنطن وموسكو معاً، يعتبر انتحاراً سياسياً، ومغامرة تجلب معها تبعات سلبية على مصير علاقتها مع الآخرين، لذا الاعتقاد الأقرب، هو أن تعطي تركيا لنفسها الوقت الكافي للتحرّك دبلوماسياً حول ملف حزب العمال الكوردستاني وقسد وقضايا أخرى قبل إقدامها على أي خطوة عسكرية، مدركة أنّ الرفض المزدوج (الأمريكي - الروسي) لهذه العمل يعكس مدى التقارب بين واشنطن وموسكو حول الموضوع السوري بعد سلسلة لقاءات أجريت بين الدولتين مؤخراً في هذا الشأن، وبالتالي تجد من الأفضل التأقلم على مضض مع هذا التقارب (الأمريكي - الروسي) الجديد والاستثمار فيه لزيادة الضغط على (ب ي د) ودفعه نحو مسار وحيد، هو التسوية مع النظام حول المناطق التي يديرها، إما من خلال مفاوضات مباشرة مع دمشق والتي تؤيدها قيادات الحزب، أو عبر مبادرات تحت مسمى "الحوار السوري - السوري". لكن ما إمكانية أن تنجح هذه التسوية مع الأسد هذه المرة ويمنح حزب الاتحاد الديمقراطي بعض "الامتيازات" مقابل عودة نظامه بكامل مؤسساته الإدارية والعسكرية إلى المناطق التي يحكمها الحزب؟
لم يطرأ أي تبدل في مواقف النظام حيال الشعب الكردي وقضيته في سوريا منذ انطلاقة الأزمة السورية، إلا أنه يتفهم الواقع الذي فرضته الولايات المتحدة الأمريكية في شمال شرق سوريا من خلال دعمه العسكري لقوات سوريا الديمقراطية، وهذا ما دفعه للقبول بالتفاوض مع حزب الاتحاد الديمقراطي وحده مرات عدة دون أن يفضي إلى نتائج ملموسة.
في الوقت الراهن، يجد النظام السوري نفسه في وضع أكثر استقراراً وقوة من أي وقت مضى، ويدرك مدى جدية تركيا في عدم قبولها بأي شكل لسلطة يتحكّم بها ويديرها حزب العمال الكوردستاني على حدودها الجنوبية. ومن جهة أخرى، الأسد ليس لديه مصلحة حتى النهاية في قبول تشكيل عسكري ضخم، مثل قسد، ضمن صفوف جيشه، لكن لا سبيل لديه هو الآخر من العودة إلى شمال شرق سوريا إلا عبر ترتيبات تتعلق بآليات احتواء (قسد) والأجهزة الأمنية التابعة للحزب إلى جانب إعطاء بعض الصلاحيات الإدارية الخاصة التي لا تتعدّى تلك الصلاحيات الممنوحة في قانون (107) الخاص بالإدارة المحلية.
لا يساور النظام الشك في مدى حاجة الحزب إلى حماية دائمة بغض النظر عن هوية هذا الحامي، تبعده عن شبح التهديدات التركية المستمرة، ولعل بعض المواقف التي صدرت من قيادات حزب الاتحاد الديمقراطي إبان الانسحاب الجزئي للقوات الأمريكية من بعض المناطق في عهد الرئيس ترامب، وتأكيدها في مواقع عدة عن تخوفها من "غدر" محتمل للأمريكيين في أي وقت؛ لدليل على عدم الارتياح والقلق الذي تعيشه قيادات الحزب، واستعدادها للتخلي عن الدعم الأمريكي إذا وفرت لهم روسيا وعبر النظام الحماية اللازمة والحفاظ على بعض الامتيازات بعد عودة النظام إلى شمال شرق سوريا، خاصة وأنه مستبعد لتاريخه عن مداولات مسار جنيف للحل السياسي وفق القرار ٢٢٥٤.
مع انسداد أفق الخيارات الأخرى أمامه، يبدو أن توجه حزب الاتحاد الديمقراطي نحو دمشق تزامناً مع التهديدات التركية، واستجابة للرغبة الروسية، وإلى حدّ ما الأمريكية، أصبح يسيراً وممكناً في الوصول إلى تسوية مع الأسد أكثر من أي وقت مضى بعد تصريحات القيادي البارز في حزب العمال الكوردستاني، جميل بايق، لوسيلة إعلامية لبنانية، أن علاقتهم مع عائلة الأسد وثيقة ولا يمكن نكران معروفهم في إيواء زعيمهم، عبد الله أوجلان. واستكمل عضو الهيئة التنفيذية لحزب الاتحاد الديمقراطي، ألدار خليل، المغازلة التي أبداها القيادي جميل بايق بالقول: "حزب الاتحاد الديمقراطي والإدارة الذاتية جاهزان للذهاب الى دمشق، ولا بدّ أن يكون حل الأزمة في دمشق وليس في جنيف".
بعد هذا الغزل والاستذكار بمناقب عائلة الأسد، لم يبقَ أمام الحزب والنظام إلا الإعلان عن التسوية التي تخدم الطرفين وحدهما، ليطويا بذلك صفحة من الشكوك التي دارت حول علاقتهما طوال الأزمة السورية، وتنتهي معها التهديدات التركية وذرائعها، ويضع الشعب الكردي رأسه على مخدة قد تريحه إلى حين الوصول إلى تسوية سياسية شاملة في سوريا.
ليفانت - عبد الوهاب أحمد
قد تحب أيضا
كاريكاتير
قطر تغلق مكاتب حماس
- November 11, 2024
قطر تغلق مكاتب حماس
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!