-
“أولاد آدم” شخصيات عدمية محكومة بأمل مرير وقليل من الحب
لا نوارس تحمل الغرقى، ولا جزيرة تقف عليها السفن الضّالة، فأيّ منعطف وأيّ قيامة نعيشها ،فمن داخل العزلة الكونية التي فرضتها “كورونا”، تابعنا العمل الدرامي”أولاد آدم”، والذي وضعنا أمام أسئلة الوجود والقلق، والمآلات التي يعيشها الإنسان العربي، أولاد آدم، التي تذكر بالمفهوم الشعبي لعبارة “أولاد آدو”، بما تحمله من إشارات إلى قطاع الطرق، والنصابين، وربما إلى التفسّخ والشروخ، فالكلّ مأزوم، بشكل تجاوز فيه كاتب السيناريو رامي كوسا، عنبر تشيخوف، وربما “عمى ساراماجو”، المتخيّل. أولاد آدم
نحن هنا على أرض الواقع، نرى ما تركته الظروف السياسية والاقتصادية من ندوب، وتهاوي القيم، والتي قدّمت بسحرية الصورة، ونخبوية الحوار، وشعبيته أيضاً، متناغماً مع الموسيقى التصويرية، والحكايات، والأداء التمثيلي العالي، الذي أبهر واستفزّ وشغل السوشيال ميديا، لاسيما، دوري مكسيم خليل، وقيس الشيخ نجيب.
قدّم العمل بتوقيع سوري لبناني، كإشارة إلى مآلات وتردّي الأوضاع التي يعيشها الناس، الكل مأزوم، وقد استطاع المخرج السوري، الليث حجو، وكاتب السيناريو رامي كوسا، أن يشكّلا معاً كيميا خاصة، لتجسيد ظاهرة الفساد في لبنان، والخراب الذي أفرزته الحرب في سوريا، وانعكاس هذا وذاك على الأسرة والمجتمع، والإعلام والقضاء، وكأننا نقف بين لحظتين، تراجيدية وعبثية،”ما صفي شي نخسره”، كتبرير على لا جدوى وعبث الواقع الذي نعيشه، بمرارة الحلم، والأفق المسدود.
“أولاد آدم”، بُنيَ على دوائر متداخلة من العلاقات، ورسم بشكل عالي.ومدروس، على مستوى النقلة عبر المشاهد، على مستوى طبيعة لغة الحوار والسيناريو، وكان محكوماً ببعد عدمي، هل ثمة جدوى لشيء، هل ثمة أمل، وكل صور الخير تقتل تباعاً؟
منذ الحلقة الأولى، وحتى الحلقة الأخيرة، ونحن نتابع المشاهد، نتلفت حولنا، نقرأ ما يحدث ونفتح باب النقاش، ودائماً عيوننا على سلطات تريد أن تدمر كلّ شيء، لتحيا سلطة المال، والمخدرات، وفوضى القانون، وانهيار السلطة الرابعة، الإعلام.
ثنائيات.وعلاقات، قيس الشيخ نجيب (سعد)، ودانييلا رحمة (مايا)، القاضية ديما (ماغي بو غصن) وغسان (مكسيم خليل)، إلى جانب أسماء برعت في منصّاتها، السجن، تجارة المخدرات، المؤسسات العليا، ومنها رانيا عيسى، ندى أبو فرحات، طلال الجردي، أنس طيارة، كارول عبود، مجدي مشموشي، فيفيان أنطونيوس، وغيرهم.
الكل بطل هنا، من بائع العربة، مروراً بالسجينات، والشرطي، والمسؤول العام عن السجن، إلى المحاكم والقضاة، إلى سركيس سائق السيارة، وكأننا أمام رواية، تقترب في مشاهد كثيرة من المسرح، ولعبة المرايا، وتتجاوزها إلى لغة اللامعقول والمصائر المحتومة.
الملفت في هذا العمل، تلك الروح الجمعية لواقع متشابه، في اللصوصية ونمط تفكير العصابات وتهريب الأموال، والتفجير، الكل ممسوك بسلك، مع إشارات إلى أنّ مانراه من سوء بيئة في السجن، قد يكون مزحة أمام السجن السوري الذي يتجاوز كل المآسي وحالات التردّي، هذا العمل يجمع الجرح السوري مع الجرح اللبناني في علاقات متداخلة، الزواج، الحب، اللصوصية، وخيط الخراب الكبير، الذي أوصل سوريا إلى ماعاشته من محرقة على مدى عشر سنوات، ولبنان إلى خروج الناس إلى الشوارع، ورفع شعار “كلن يعني كلن”.
لانفكر هنا سوري ولبناني، بل نرى أنّ السيناريو لكاتب سوري تفوّق على نفسه، وأوصلنا إلى دراما تحاكي السينما والقصة والرواية أيضا، سيناريو، يضع يده على الشروط الموضوعيّة لما نعيشه، هو صرخة، و تأكيد على أنّنا محكومون بأمل مرير.
في “أولاد آدم”، كنا بشراً على أرض اليباب والخراب، وأمام مشاهد إنسانية، كنا أمام كيميا بين أبطال يعيشون النص، ويؤدّونه بشكل مبدع.
أسر فنيّة وكيميا:
هنا لا نسأل من الأهم، الممثل السوري أم لبناني، هنا تطلق لغة الحوار، متجاوزة كل من يريد أن يجرّنا إلى مشاعر الفوقيّة والعنصرية، نحن هنا نتقاسم وجع الحكاية، التي قدمت برؤية إخراجيّة لمخرج يمتلك حساسية عالية بالصورة وعمق المعنى، هذا الحلبي الذي نشأ في بيت فنان كبير هو الممثل عمر حجو، الممثل الذي ترك صوتاً وصورة وعلامة في المسرح والدراما السورية، ونحن هنا أيضاً، أمام كاتب شاب، ابن ممثل مثقف، ومن أهم الممثلين السوريين في السينما والدراما والمسرح أيضاً، بسام كوسا، نحن أمام قيس الشيخ نجيب ابن الممثل والمخرج محمد الشيخ نجيب، وابن فنانة في فرقة الفنون الشعبية، نحن أمام ممثلين لبنانين مبدعين لهم تاريخهم في الدراما اللبنانية، وقد استوقفنا في هذا العمل وجوه كثيرة، لاسيما دانييلا رحمة التي أدّت بشكل مدهش هذا الدور الشعبي من راقصة إلى نشالة وعاشقة، مايا، كما ماغي بو غصن وزوجها المنتج جمال سنان، مكسيم خليل والتراكم الثقافي، والده السياسي الدكتور هاني خليل، ووالدته ستيلا متخصصة في الماكياج وتصميم الملابس، شاركت في العديد من الأعمال وكان يرافقها إلى مكان عملها، بيئات فن، وخصوبة إبداع.
عمل مشترك:
“أولاد آدم”، من إنتاج لبناني، إيغيل فيلمز، هذا العمل المشترك، استطاع عكس البيئة بقوة، ولم يتغرّب عن هويّة وخصوصيّة المكان، عمل جريء، ينضم إلى أعمال كبيرة، مثل “أسرار المدينة” و”ذكريات الزمن القادم” و”زمن العار” و”ولادة من الخاصرة”، وصولاً إلى أعمال البيئة الشامية والحلبية مثل “خان الحرير” و”ليالي الصالحية”.
شكّل “أولاد آدم”، خطوة مهمة نحو قراءة الواقع السوري اللبناني، وما يعيشه المواطن اللبناني واللاجئ السوري، على حدّ سواء، وقد قدّم بتوقيع إنساني.
مسارات العمل:
يقوم المسلسل على ثلاثة مسارات أو ربما عوالم متوازية. في المسار الأول، الطبقة العليا متمثلةً بإعلامي مشهور متزوج من قاضية معروفة، وأصدقاء من أصحاب المال والقرار. وفي المسار الثاني، الطبقة الشعبية المهمشة من المجتمع متمثلة ب”لصّ” من دون أوراق رسميّة وحبيبته الراقصة في الكباريه. بينما يدور المسار الثالث حول عالم السجون بكل ما فيه من تفاصيل مخيفة نراها عبر شخصية عبلة، زعيمة السجينات وزينة المتمردة ونبيل، آمر السجن. وتأتي هذه المقاربة المجتمعية بأبعادها الثلاثة لتمنح العمل تميّزه أمام سقوط “الساحر”، (عابد فهد)، بشكل استخف فيه القائمون على العمل بالمشاهد، كأنهم يلعبون لعبة الضحك على اللحى، و”النحات”.
رؤية إخراجيّة وبيوت:
شكّل المكان، لاسيما البيوت، منصّة حقيقية لحميمة العمل والعلاقات، بيت قيس، بيت القاضية، بيت الإعلامي صديق غسان، بيت سركيس، بيت مسؤول السجن، والشرطي، إلى جانب المكان العام والطبيعة الساحرة، كل شيء كان مرسوماً بتقنية الظلّ والضوء، وكوادر العين، والمرايا، والأقواس، حتى الوصول إلى المشهد الأخير، وهو يبثّ رسالته الأخيرة قبل لحظة انتحاره، هذا المشهد الذي جسد ببعد مسرحي وسينمائي مبهر.
قراءة المآلات، غسان الذي تمرّس على ممارسة أعمال غير إنسانية، زوج القاضية والوزيرة، الإعلامي، الذي عمل مخبراً في الأمن السوري، مشاهد الخراب النفسي المتلاحقة، مشهد حديثه مع البنت، ودفعها للانتحار دون أن يرفّ له جفن، مشهد تمثيل دور الغلطان أمام زوجته، “أنا غلطان وغرقان بالغلط”، استخدامه لكلمة صباط، “صباطي أحسن منك”، ثقافة التشبيح والانحطاط، براعة مكسيم في أدائه لدور الشرير المريض، المخرّب نفسياً، وهذا يشير إلى واقع شيزوفرينيا معطوب نعيشه بدرجات متفاوتة.
استطاع مكسيم، الحفر على العمق، كل حركاته مدروسة، عينيه، يديه، حركاته، ضحكته، لامبالاته، تشفيه، وقد استفزّ بأدائه الجمهور، هذا الإعلامي النرجسي الوصولي، وكأنه أراد أن يقول موقفه، نعم أراد أن يجسد من يقف ضدهم، الأنظمة المخرّبة، التي تحرق كل من عليها مقابل بقائها.
كوادر، إضاءة، موسيقى إياد الريماوي، استطاعت أن تكون عنصراً جمالياً مهماً مكملاً للحظات الصمت للحظات الصراخ للحظات البوح، وقد شكّل نصّه الموسيقي نصّاً مسموعاً متناغماً مع الحكايات، ورافعاً العمل إلى التميز والتكامل.
الحلقة الأخيرة والتتويج
أعادنا أداء مكسيم إلى السينما العالمية، وتحديداً الجوكر، مشيته على ايقاع الأغنية، الدخان، الضحكة، الاعتراف، الخطوات، كل شيء كان يشدنا، في مكان ممتدّ مفتوح على أقواس، المرآة، المكياج، المونولوج الداخلي، وقدميه المتدليتين من المشنقة، هذا المشهد أعادني للأخوة كارمازوف، بتراجيدية جارحة، وقد نجح في تجسيد الشخصية المكيافيلية، التي تتلذّذ بإيذاء الآخرين، وتتبنى نظريات تدعو إلى التخلّص من نصف البشرية.
على طرف آخر، أبهر قيس الشيخ نجيب، سعد، وأبدع في تجسيد شخصية النشّال، وكان أداؤه مدروساً مدهشاً، أخذنا في مرات كثيرة إلى المسرح والسينما، واستطاع نجيب أن يغيّر معادلة معروفة، فقد تعاطف معه كثيرون، ففي دوره نلمس معنى الشخصية العدمية، ورغم هذا يتمسك بالحب، ويتعاطف مع الفقراء، ويحب من ربته، وعلى بساطة هذه الشخصية، فإنّها محكومة بفلسفة العبث، وربما العدمية التي أعادتنا إلى المعري، “هذا ما جناه أبي وما جنيت على أحد”، هو اللقيط، ابن الحب المحرّم، تعرّض لحادث في صغره أدّى إلى تشويه إحدى عينيه، مما فرض عليه وضع عصبة سوداء عليها، وهو ما أعطى شكله الخارجي ميزة خاصة، وهنا يجتمع دور المخرج والممثل معاً، ليصل إلى عمق الإحساس في الشخصية.
وفي ذات السياق، يكشف العمل عن معنى أن يُسرق موبايل أحدهم “غسان”، وتكشف أسراره، معنى أن نصبح عاريين أمام الملأ، هو ماكشف عنه العمل.
في حين أبدعت دانييلا رحمة، مايا، في دورها الذي لم يسبق أن شاهدناه، راقصة، ومن ثم عاشقة لسعد، ونشّالة، بصوتها وحركاتها، بتوقها لإخراج أختها من السجن، وقد نجح سيناريو العمل في قراءة الواقع بشكل موضوعي، وبلغة تتناسب مع كل شخصية.
الأمر نفسه ينطبق على طلال الجردي وسوسن أبو عفار، اللذين يأخذانا بطبيعة الشخصيتين اللتين يجسدانها إلى عالم التمثيل المحترف، أبدع طلال الجردي، بدور بسام، وهو عنصر في قوى الأمن الداخلي يعمل في سجن النساء المركزي، يشترك مع سعد (قيس الشيخ نجيب) في سرقة وبيع التلفونات. أبدع في أداء الدور والحفر على الشخصية، وقد تفوّق في أداء دور الشرطي، الضحكة، الحركة، وتفاصيل لغة الجسد والروح، كل هذا تأكيد على أنّ كل ممثل هو بطل في مكانه.
القاضية ماجي أبو غصن، ديما علم الدين، وأداؤها الهادئ، والمقتع معاً، أداؤها الذي عكس حالة الصراع والخوف والتوق، ومن ثم الصدمة من سلوكيات زوجها التي تجاوزت أي توقع، والتحولات التي مسّتها نتيجة الضغوط.
أما الممثل رودني حداد، فقد جسّد شخصية “الضابط نبيل عبيد”، آمر سجن النساء، وقد برع في أدائه التمثيلي. الذي خطف الأنظار إليه، تلك الشخصية الرومانسية الحالمة، المجروحة، والمتطلعة إلى العدالة، العاشق الذي يثبت عن قلب ضعيف أمام المرأة التي يعشقها منذ سنوات الدراسة الجامعية، القاضية “ديما علم الدين” (ماغي بو غصن) المتزوجة من الإعلامي “غسان” (مكسيم خليل).
نجحت عبلة (كارول عبود)، وزينة (ندى أبو فرحات)، اللتان التقيتا في مسرحية “الخادمتان”، للمخرج جواد الأسدي، في تجسيد دور المرأة وما يمارس عليها من ضغوط، توصلها للقتل، أو للاختلاس، أو التهريب، كلنا مدانون، لا يحتمل هذا العالم إنساناً نظيفاً شريفاً، عليك أن تتلوّث كي تشبه من حولك ولو بشكل نسبي.
الفرح توق:
ينتهي العمل بعرس مايا وسعد، على سطح بيت سركيس، حضر الحب، والحلم حضرت الوزيرة ديما علم الدين وحبيبها نبيل، حضر الغناء، وحضرت شقيقة مايا، هو الحلم بأفراح صغيرة مهربة، بعيداً عن واقع بلا أعراس.
ليفانت – فاتن حمودي
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!