الوضع المظلم
الجمعة ٢٧ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
الإعلام العربي والحرب الكونية
أحمد شحيمط

الحرب العالمية الثالثة قادمة، إنها الحرب الكونية بين الغرب وروسيا، بين حلف "أوراسيا" وحلف الناتو، طبول الحرب تقرع، زحف روسي نحو أوكرانيا، وتطويق عسكري من كل الجهات، الغزو الروسي لأوكرانيا بات وشيكاً، خطوات قليلة على الحرب العالمية الثالثة.. عناوين جمة في الصحافة العربية المرئية والإلكترونية والورقية معاً، هدير الطائرات، وأفواه المدافع، صواريخ وراجمات، والصور العابرة من المكان عن الحشود العسكرية، وهذا الاستنفار الكبير من قبل الكل.

إنها الحرب الكونية الوشيكة التي تقرع طبولها هناك، ولا ينقصها سوى الشرارة الأولى من أمريكا أو روسيا حتى نجد أنفسنا ضحايا الآلة التذميرية التي تنهي الكون والحياة، وتجعلنا نعيش في رعب وأهوال الشظايا، والقنابل الذكية، وتلك الأسلحة التي تخبئها أمريكا للحسم النهائي، وما تملكه روسيا من قدرات نووية وخبرة وصلابة في الحرب، ما يجعلها كذلك صامدة في وجه حلف الناتو.

تنقلنا الصور في الفضائيات العربية إلى معترك الصراع، من قلب أوكرانيا، ومن قلب روسيا والحدود المشتركة، السبق الإعلامي، ومحاولة الإعلام العربي والعالمي البحث عن أخبار للتو، وبسط التحليلات والتعليقات من ذوي الخبرة والشأن السياسي، ومن أصحاب المواقف الأيديولوجية في القول بالريادة والحنكة للرئيس الروسي بوتين، صلابة الرجل مستوحاة من الإرث السابق للاتحاد السوفياتي، ومن خبرته في العمل الاستخباراتي، ومن شجاعته وقدرته في مجابهة الغرب للحد من طموحاته التوسعيّة، وإرغامه على الإنصات والامتثال للمصالح الروسية، بينما آخرون يعتبرون في خطابه نوعاً من المساومة والتحدي، والبحث عن مكانة لروسيا كدولة لا تقهر وذات إرادة في الفعل، تمتلك من القوة والنفوذ ما يجعل الغرب ينصت، ويفرمل طموحاته عند القرب من حدودها الجغرافية.                               

ثقافة الغرب في المناورات السياسة معروفة، منها ما يكشف في العلن، ومنها ما يبقى في السر، مناورات من عقل سياسي خبر مآسي الحروب والدمار، عقل أداتي يطوع ويجرب كل الأدوات الممكنة، هاجسه المنفعة. يقدم الغرب نفسه حامياً للقيم الكونية، ويعتبر النزوع للحرب والقوة بين القوى الكبرى بداية النهاية للحضارة المادية وللحداثة التي تفنن في صنعها وعمل على إخراجها للعالم، من التكنولوجيا والعولمة والتجارة الحرة والسيطرة على العالم معرفياً وأيديولوجياً، كما يفتخر الغرب بما قدمه من إنجاز في سبيل إزالة الخطر الشيوعي، والإعلان عن نهاية الحرب الباردة، جاءت النهاية بروسيا كدولة إقليمية لا يمكنها تهديد أقوى حلف عالمي، في سياسة الحلف، لا تعتبر روسيا دولة مارقة، شراكتها مع الغرب اقتصادياً جعل من أمريكا ترغب للتوسع قريباً من حدودها. إذن كيف يمكن لروسيا مجابهة الغرب ولها بالفعل مصالح حيوية مع أغلب دوله؟ كيف يراقب الإعلام العربي التوتر بين الغرب وروسيا؟                                              

يردد الرئيس الروسي بوتين دائماً وعلى مرأى من الصحافة العالمية أن الغرب هو المسؤول عن التوترات العالمية، وأن روسيا لا تهدد بغزو أوكرانيا، ولا يمكن لأوكرانيا أن تكون بوابة للناتو وتهدد القرم، هناك علاقة جوار، وعلاقة تاريخية تجمع بين الشعب الروسي والشعب الأوكراني، التركيبية السكانية لأوكرانيا مزيج من الشعبين. مخاوف العالم مشروعة من حرب ضارية تملك الشعوب الإرادة في منعها عندما تخرج الجماهير وتنادي بصوت قوي في ردع دعاة الحروب، وكل من يقرر بمنأى عن الإرادة الشعبية التي ترغب أن يكون العالم مسالماً لأن زمن الحروب ولّى من خلال العبر والدروس من الحرب الكونية الأولى والثانية.

السؤال الذي يراودني كثيراً يتعلّق بحماسة الإعلام العربي للتهليل أكثر للحرب العالمية الثالثة بناء على العناوين البراقة، سواء من الإعلام المرئي الخاص بالفضائيات أو المكتوب بناء على كتابات وبرامج حوارية وعلى الهواء مباشرة، أو من خلال الخبراء الذين يعتبرون الحرب مسألة وقت، وأن الشرارة تبدأ من هناك أو من بحر الصين الجنوبي بعيداً عن فرضية اندلاعها من الشرق الأوسط. فالإعلام العربي والقنوات المحسوبة عليه في الإنترنت تصور الأزمة بين الغرب وروسيا أنها تقود للحرب الكونية بشكل حتمي، يبحثون عن التصريحات العلنية هنا وهناك، يحملون الكلمات أكثر مما تحتمل، يعتبرون الإرهاصات والمؤشرات الدالة على اختلاف المصالح، وصراع الإرادات دلائل قوية للحرب، اشتعالها سيؤدي بالفعل إلى تحالفات عدة، وقيام هذا النوع من الحروب لا بد أن يترك رماداً على الكل إذا جنحت القوى المتحاربة لاستعمال السلاح النووي، وبالفعل أغلبها مدجج بهذا النوع من السلاح.                                                                                     

أوشكت المفاوضات العلنية على الانتهاء، الذعر يدب في أوصال الجسد الغربي، وروسيا التي تمتلك القدرة على المناورة والمبادرة في نفس الوقت يبدو أنها في كامل الاستعداد للحرب الشاملة، تكهنات عن المنهزم والمنتصر تبلغ درجات من التحليل والنقاش وسرعان ما تلوح في الأفق بوادر للحل أو توافق سياسي يرضي كل الأطراف. يقفز الإعلام العربي للقول بناء على ما يقوله المحللون والمراقبون، وما هو مسرب من الكواليس، وما يتم استنتاجه من وراء تحليل الخطاب وقراءة ما وراء السطور. عندما تتابع الإعلام العربي، خصوصاً الفضائيات، وما يتم نقله عبر الأقمار الاصطناعية من خلال شبكة المراسلين، تدرك كمشاهد حتمية الحرب، وزمنها يعد بالدقائق.

يحاول هذا الإعلام بسط الحقائق، وتسليط الضوء على الخفايا والجزئيات، وما هو جديد في الأروقة، وما يقال في اللقاءات الإعلامية، وتبقى الحقيقة غائبة أو أنّها غير منكشفة، ومهما قيل عن دواعي الحرب وترقب نتائجها، وأن شرارة الحرب بيد الزعماء والأجهزة الاستخباراتية، وكل من يبدأ بطلق رصاصة، لكن الحقيقة من الميادين والكواليس لا تعكس بالفعل ما يقال في وسائل الإعلام، جاهزية الجيش الأوكراني لا تعني أن الحرب وشيكة، ونقل المعدات إلى البلدان القريبة من أوكرانيا في سياق الحماية لبعض دول الناتو لا تعني محاصرة روسيا وتهديدها بالسلاح النووي، الحرب الكلامية والنفسية من آليات الحروب المعاصرة، والتهديد بالعقوبات والمساندة لأوكرانيا لا تعني الحرب المباشرة، يمكن توصيف الأزمة باستعراض للقوة ومناورة ماكرة لأهداف غير معلنة، إنها حرب موجودة في العالم أساسها بلاغات وتكهنات، وتربص لما يمكن أن يقع، القوة الإعلامية العربية والعالمية تبحث عن الخبر، والعالم الآن بات متعدداً، ولا ترغب الدول المستقلة والحرة في التبعية أو التحكم في قرارها السياسي. غزو أوكرانيا يمكن أن يتحول لحرب استنزاف لاقتصاد روسيا وانتكاسة لسياستها في التفاوض من منطق القوة.             

مخاوف روسيا مشروعة لأنها الوريث الشرعي للاتحاد السوفياتي، عقيدتها ثابتة في الدفاع وتحصين ذاتها من الغرب ما زالت قائمة، فمن يبدد هذه المخاوف؟ وكيف يمكن حل الأزمة بدون انجرار للحرب الكونية الثالثة؟ نعتقد بكل بساطة أن العالم الآن بحاجة للتضامن من أجل مواجهة الأخطار القادمة على البيئة والصحة العالمية، الكوكب في خطر من جرّاء الاحتباس الحراري، والجفاف وشح المياه، وذوبان الجليد، الخطر على الثورة التكنولوجية أن يصيبها الدمار والعودة للحياة البدائية، الخطر من الفيروسات والأوبئة الفتاكة، يزداد العالم مجاعة ويسود الاحتقان الاجتماعي والقتل بأنواعه، وما يرسمه الإعلام العربي والعالمي من تشكل نظام عالمي جديد مجرد تخمينات. فالحروب تصنع أشخاصاً نعتبرهم أذكياء وأقوياء، والتاريخ يعتبرهم أدوات، يسير التاريخ وفق غايات محددة، ومن يعتقد غير ذلك، فالتاريخ يقدم لنا شواهد من الأبطال الذين ماتوا منتحرين ومقتولين، أصبحوا محنطين في كتب التاريخ، وبقيت إنجازات الإنسان في حضارة صنعها الفكر البشري شاهدة بأطلالها المادية على البقاء حتى ينتهي العالم بإرادة إلهية. أما الإعلام العربي، فمن المزايا الإيجابية، يحاول ابتكار أدوات ووسائل للتعبير عن ذاته، ومدى قدرته في مسايرة إيقاع الأحداث بالنقل من المكان، وتكثيف الجهد من خلال شبكة من المراسلين، وتتبع الوقائع بتفاصيلها، نقلة نوعية في مجال التعبير والتحرر من الإعلام الرسمي المزيف، وأنه بالفعل يحاول ما أمكن أن يكون موضوعياً، لكن في المقابل لا يخلو هذا الإعلام من التهليل والرفع من وتيرة الحدث، وكأن طبول الحرب بدأت، ولا مفر لنا سوى انتظار النتائج بإعلان المنتصر والمنهزم معاً.

العرب بصفة عامة لن يكونوا بمأمن عن الحرب العالمية الثالثة، ستؤدي هذه الحرب لا محالة إلى استنزاف ثرواتهم الباطنية من خلال مد الغرب بالغاز والبترول والأموال اللازمة في تمويل الحرب والمشاركة فيها، ستكون هذه الحرب عالية التكلفة والخسائر إذا ما قررت هذه الدول دعم كيان على آخر من خلال تفضيل المصالح مع أمريكا أو التضحية بروسيا التي تضم ملايين المسلمين، والكارثة الأكثر أن في قيمنا ما يدعو للجنوح للسلم والحفاظ على أرواح الناس كافة، الحرب لن تقع إذا خرجت الجماهير في العالم بصوت واحد، أننا لا نرغب في الحروب، ولا أحد يمكنه أن يقرر بدل إرادة الشعوب، لا نريد أبطالاً ولا تجاراً للحروب. أن تكف القوى الكبرى عن التدخل العسكري في سيادة الدول الأخرى.      

يكفي أن يتأمل الشعب الروسي ويلات الحرب العالمية الثانية، وتكلفة الدفاع أو الغزو، وسنوات الصراع في أفغانستان والقبضة الحديدية على الشرق الأوربي، ويكفي كذلك أن يستخلص الغرب العبر من الحروب الاستعمارية، والتدخلات العسكرية في بلدان عدة، الحرب مع روسيا لن تكون عادية وتقليدية، لكنها ستكون حرباً سريعة وبتكلفة عالية في تدمير البشرية. أما الإعلام العربي، وخصوصاً الذي يتسم بجرعة عالية من الأيديولوجية، مطالب أن يقدم للمشاهد العربي إمكانيات أخرى للفهم والاستيعاب، بناء هذا المواطن على ثقافة سياسية تولي أهمية للفكر العقلاني، وبعد النظر في عملية التحليل لأبعاد الصراعات ومخرجات الحل.

لم تنتصر أمريكا ولا روسيا للقضايا العربية، محرك الصراع بينهما مصالح متباينة، وتصفية حسابات تاريخية، ومع مرور الوقت، تتلاشى الأزمة، وتعود القوى الكبرى إلى سياستها في اقتسام خيرات العالم من خلال تفاهمات ممكنة، ويبقى الإعلام العربي يترنّح وحيداً في كشف خيوط المؤامرة ودسائس السياسة. أعتقد أن العقل السياسي الغربي مبدع في المناورة وحل الأزمات.                                                              

ليفانت - أحمد شحيمط

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!