الوضع المظلم
الجمعة ٢٧ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
الرقة بمنظور درامي
الرقة بمنظور درامي

الرقة بمنظور درامي

فرحان مطر.


عندما انتشرت أجهزة التلفزيون في الرقة، وصارت الشاشة الفضية حديثة العهد تحتل مكان الإذاعة بما لهذه الشاشة من سحر الصورة، أخذت المسلسلات التلفزيونية وخاصة البدوية منها، وكانت رائجة في تلك الأيام، تتسابق في سرقة اهتمام الناس بها، ومتابعتها، حتى أن موعد المسلسل يفرض حالة أشبه ما تكون بمنع التجول في المدينة.




كنت واحداً من أبناء الرقة الذين تابعوا حلقات المسلسل الذي أنتج عام 1988 وبثه التلفزيون السوري بعنوان "النهر سلطان" للأديب الرقي الكبير د.عبد السلام العجيلي، وهو من إخراج لطفي لطفي، وبطولة الفنان مازن الناطور، وشارك في التمثيل من أبناء الرقة: مصطفى الحاج، وطلال شاهين، وما زلت أذكر كيف أنني كمتابع عشت أجواء ذلك العمل، الذي يتحدث عن جبروت نهر الفرات وسطوته، وتأثيره الحاسم في حياة الناس الذين يعيشون على ضفافه، فهو الخير والحياة والعطاء عندما يكون راضياً هادئاً، وهو الموت الزؤام عندما يثور ويغضب، ويجرف في طريق ثورته وطوفانه البيوت والمواشي، مثلما يحصد الأرواح كذلك.


أذكر أيضاً كيف كان الناس ينتظرون بفارغ الصبر موعد الحلقة الجديدة من المسلسل، وكيف كانوا يتفاعلون معها، تماماً مثل أي حدث يعني حياتهم ووجودهم بشكل مباشر.




في منتصف التسعينات تقريباً عرض التلفزيون السوري مسلسلاً بعنوان: "الغريب والنهر" للكاتب عمار المصارع، وهو من إخراج هشام شربتجي، وبطولة الفنان حاتم علي، وتدور أحداث هذا المسلسل في إحدى قرى محافظة الرقة، عبر حكاية معلم يرسل للتعليم في إحدى القرى النائية.


لم يكن هذا المسلسل حدثاً عادياً، ولم يمر سريعاً عند أهل الرقة، فقد كانوا على موعده اليومي، يعقدون سهرات المشاهدة الجماعية، ذلك أن التلفزيون لم يكن قد صار في متناول جميع الأسر الرقية.


من خلال هذين المسلسلين أتيحت لأبناء الرقة فرصة رؤية ممثلين وممثلات يلبسون مثل ملابسهم، ويتكلمون مثل لهجتهم في الحديث، بمعنى أنهم اكتشفوا متعة رؤية صورتهم عبر الشاشة الصغيرة، وصارت أحداث المسلسل، وتفاصيله على كل لسان، حتى أنهم كانوا يتوقفون عند كل شخصية في العمل ليقوموا بتقليد أدائها، وطريقة لفظها اللهجة الرقاوية، وأصبح الكل يدلي بدلوه، حتى أننا تحولنا بين ليلة وضحاها إلى شعب كامل من النقاد.


لماذا حصد هذان المسلسلان كل هذا الاهتمام والمتابعة لدى جمهور الرقة؟!.


ربما كان على رأس هذه الأسباب التي جعلت من كل الناس (أكاد أجزم بالكل) يتابعون طبيعة الموضوع، ألا وهي تناول ما يعني حياة الناس بشكل مباشر، الحالة الأولى: النهر، والحالة الثانية: المجتمع الرقي ممثلاً بإحدى القرى فيه وشكل العادات والتقاليد الاجتماعية التي حاول الحديث عنها.


إضافة إلى عنصر حاسم جداً آنذاك، وهو غياب عنصر المنافسة، حيث كانت القناة التلفزيونية الوحيدة التي تملأ هذا الفضاء.


تغيّر الزمن، وتغيّر معه كل شيء، وفي سوريا لم يبق شيء على حاله، فبعد أن ابتدأت ثورة الحرية في أيامها الأولى، ورد النظام عليها باختيار ما أطلق عليه الحل الأمني، ما حدث أشبه بزلزال من ناحية التدمير وحجم الخسائر والأضرار، غير أن الفارق هنا في أن من قام بهذا الخراب والتدمير ليس قوى الطبيعة العمياء كما في الزلازل والكوارث الأخرى، ولكنه بفعل فاعل اسمه النظام السوري، الذي نجم عن إجرامه وقتله المتعمد، قرابة المليون قتيل ومثلهم من الجرحى والمصابين، إضافة إلى نزوح ولجوء أكثر من عشر ملايين سوري من بيوتهم، عدا مئات الآلاف من المعتقلين والمغيبين في السجون لدى النظام، والعصابات الإرهابية الأخرى.


سوريا التي كانت واحدة قبل الثورة، أصبحت كيانات متعددة مختلفة، متوزعة أشكال الحكم بحسب الجهة التي تسيطر عليها عسكرياً، صار لدينا سلطات أمر واقع في أكثر من مكان، وصارت سوريا رسمياً تحت ثلاثة احتلالات على الأقل: روسية وإيرانية وتركية، إضافة إلى مخلفات القاعدة هنا وهناك.


الرقة واحدة من المدن السورية التي دفعت أفدح الأثمان، بعد تعرضها لاحتلال داعش، وتدميرها من قبل قوات التحالف بحجة محاربة داعش، وانتقال الحكم فيها إلى قوى غريبة تسمى قسد، وما نجم عن ذلك من نزوح أهل الرقة مثل غيرهم من السوريين، وتكبدهم تدميراً غير مسبوق لبيوتهم وممتلكاتهم وجسور الحياة على نهرهم العظيم.


بعد هذه الصورة المأساوية شديدة السواد، وبعد تغير الزمن والانتقال من هيمنة القناة التلفزيونية الواحدة، والوصول إلى عصر الفضاء المفتوح، حيث يمكن للمرء أن ينتقل بكبسة زر واحدة إلى أي مكان في العالم عبر الأنترنت، ومشاهدة ما يثير اهتمامه، ويلبي احتياجاته عبر القنوات التلفزيونية التي يشاء.


في هذا الواقع الخاص الذي تعيشه الرقة اليوم، ثمة عدد من الإذاعات المحلية، التي تتنافس على كسب اهتمام المستمعين، من خلال ما تقدمه لهم من برامج تتحدث عما يعنيهم، ويعينهم ربما على متابعة أمور حياتهم اليومية في ظل الغياب شبه الكامل لمعرفة ماذا يخبئ لهم الغد، فكل الاحتمالات مفتوحة، ومن يدري إن كان هذا الخراب هو آخر المطاف؟!.


الأديب الرقي الشاعر "بسام البليبل" كتب مسلسلاً إذاعياً من 22 حلقة بعنوان: "تاريخ وقيامة" من جزءين الأول بعنوان: الجسر، والثاني بعنوان: شموع الخضر، لإذاعة تدعى (شوفي مافي) توجه بثها إلى محافظة الرقة، لا معلومات متوفرة لدي حول عدد متابعيها ومستمعيها، ومن هو جمهورها أساساً.


هذا المسلسل قام بإخراجه إذاعياً: الشاب "طاهر مقرش"، وقام بأداء الأصوات مجموعة من الشباب والشابات.


يطرح المسلسل عدداً كبيراً من القضايا الملحة التي تعيشها المحافظة، ويعاني منها أهلها، مع استعراض لتاريخ الرقة، وأبرز المراحل والأحداث التي شهدتها وصولاً إلى اللحظة الراهنة (ما بعد داعش).


كل القضايا الحساسة سياسياً واجتماعياً وحياتياً كانت حاضرة بالنص بقوة ووضوح:


(نزع الألغام - إزالة الأنقاض - إعادة الإعمار - عودة المهجرين والنازحين - الحياة تحت سلطة الأمر الواقع الجديدة وكأن قدر أهل هذه المدينة الحياة تحت احتلالات متعددة لا يميز بينها سوى لون الرايات).


تدور الأحداث والحوارات في مضافة المختار نجم، ومساعده مشهور، حيث بقية الشخصيات تتوافد إلى هذا المكان وتروي ما يحدث معها في حياتها اليومية.


الشخصيات التي كانت حاضرة مثلت قدر المستطاع نماذج مختلفة من الناس متقاربي المستوى الاجتماعي والثقافي، يدل على ذلك طبيعة الحوارات الدائرة بينهم، ومعالجتهم للمشاكل اليومية، والقضايا السياسية التي تواجههم.




إن مقارنة بين زمني الأعمال الدرامية الإذاعية والتلفزيونية في الزمن السابق ودرجة متابعة واهتمام الناس بها، مع الظروف الحالية، تميل إلى عدم التكافؤ بالمطلق، وبالتالي سيظلم هذا الجهد الكبير الواضح الذي بذله هنا الكاتب بسام البليبل بما لا يقل أهمية عن مستوى النص الذي سبقه به الأديب العجيلي في النهر سلطان، ولا نص عمار المصارع في الغريب والنهر.


يسجل على هذا العمل الهام "تاريخ وقيامة" ضعف المستوى الفني الواضح في الأداء، والذي لم أجد له تبريراً، سوى احتمال أن يكون تنفيذ العمل تم عن بعد، وبأدوات غير احترافية.


خلال هذه الحلقات لم يكن أداء الشخصيات مقنعاً، فقد سيطر البرود والتصنع على الأداء، مما أثر سلباً على قيمة النص.


أخيراً، لو خدم الزمن ظروف بث هذا المسلسل الإذاعي لكنا أمام عمل لا يمكن نسيانه ولا مسحه من الذاكرة، وفي كل الأحوال يستحق هذا العمل أن يتابع، ويعاد الاستماع إليه أكثر من مرة.


الرقة بمنظور درامي

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!