الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / سبتمبر / ٢٠٢٤
Logo
الصراع الروسي الأوكراني.. ومكانة أوربا من ذلك
 شيار خليل

طاولة ضخمة واجتماع طويل ضم عشاء من سبعة أطباق مختلفة جمعت كلاً من الفرنسي والروسي، بوتين وماكرون، اللذين أعلنا أنهما سيلتقيان للتحاور والتباحث حول الصراع الدائر بين روسيا وأوكرانيا. هي فرصة جديدة للرئيس الفرنسي أن يبرز عضلاته من جديد بأنه يمتلك سياسات عالمية خاصة نيابة عن الاتحاد الأوربي، إلا أن الأنظار كانت نحو النتائج من تلك المحادثات التي لم يخرج عنها سوى تصريحات دبلوماسية مبطنة.

يحاول ماكرون ومع اقتراب الانتخابات الفرنسية هذا العام، أن يُنظر إليه أنه حصن ضد الشعبوية القومية والدفاع عن التعددية، فمنذ مارس 2018، ينظم الفرنسيون "منتدى باريس للسلام"، حيث يجتمع قادة العالم "لتطوير التنسيق والقواعد والقدرات التي تستجيب للمشاكل العالمية"، كل ذلك ليعطي طعماً للقيادة على الساحة العالمية.

إذاً، حان الوقت ليختبر ماكرون تلك القيادة في أوكرانيا، فبالرغم من استعادة الرئيس الأمريكي بايدن الدعم لشركاء أميركا والتزاماتها، إلا أن انسحابه من أفغانستان أشار إلى العديد من سياسات الاستمرارية عندما يتعلق الأمر بالتركيز على أجندته الداخلية. وهنا ربما شعر بوتين بهذا التردد في الانجرار إلى أزمة جديدة دموية ومكلفة ومطولة، واختار هذه المرة التصعيد على نحو لم يسبق له مثيل على الحدود مع أوكرانيا.

هنا وبالمقارنة بين واشنطن وأوربا، سنرى أن أوربا الموحدة والاستباقية في أغلب الملفات هي أكثر أهمية في المعادلة من أي وقت مضى، على الرغم من أنهم غير قادرين على جلب نفس الموارد العسكرية إلى الساحة، وهو أمر جيد، إلا أنّ التهديد بفرض عقوبات بدلاً من العمل الروسي سيكون مستحقاً على أوربا، خاصة عندما يتعلق الأمر بسياسة الطاقة. فلا ننسى أنه يأتي حوالي 43٪ من الغاز الطبيعي المستهلك في الاتحاد الأوربي من روسيا، وفي الوقت نفسه تصدر روسيا وأوكرانيا معاً 29٪ من القمح إلى العالم. كذلك بلغ إجمالي الاحتياطيات الدولية لروسيا 600.9 مليار دولار في مايو/ أيار من العام الماضي، وهو أعلى مستوى لها على الإطلاق، مما يشير إلى استعداد الكثيرين للخروج من العقوبات الاقتصادية التي قد تعقب غزو أوكرانيا.

تعتمد باريس وبرلين مواقف مماثلة تجاه الأزمة الحالية، حيث تقول كل منهما إنه يتعين على الاتحاد الأوربي والناتو التعامل مع موسكو. لكن أولاف شولز، المستشار الألماني الجديد الذي حل محل أنجيلا ميركل، حذّر من أن المزيد من المحادثات يجب ألا يساء فهمها على أنها "سياسة أوستبوليتيك" ألمانية جديدة، في إشارة إلى سياسة الانفراج التي تنتهجها المستشارة الألمانية الغربية، ويلي براندت، تجاه الكتلة الشرقية الشيوعية في أوائل السبعينيات. وقال شولز إنه "لا يمكن أن تكون هناك سياسة أوربية في أوربا الموحدة تستند إلى مبادئ القانون والنظام الدوليين التي التزمت بها روسيا ولكنها انتهكتها بضم شبه جزيرة القرم".

وبالعودة قليلاً إلى المصالح المشتركة بين أوربا وروسيا، سنكتشف أن روسيا تكسب 60٪ من عائدات وارداتها من الاتحاد الأوربي، لذا فإن الشعور بمدى التداعيات المؤقتة هو بالتأكيد سؤال يطرحه بوتين على نفسه في المفاوضات مع ماكرون. وقد جادل البعض بحجم الطاولة التي حددت الاجتماع بأنه تأكيد من بوتين على السلطة ورمزية أخرى للثغرات بين الجانبين. بالتزامن مع ما قاله بوتين في وقت لاحق بغضب لمراسل فرنسي: "إن روسيا قوة عسكرية عظمى وقوة نووية عظمى"، وحذّر قائلاً: "لن يكون هناك فائزون وسوف تنجر إلى هذا الصراع ضد إرادتك".

في حين أن الكثير من التركيز على تكتيكات الحرب الاقتصادية كان على العقوبات المحتملة على موسكو، فإن خطر الصراع نفسه له تأثير "مخيف" على الاقتصاد الأوكراني. في حين يبدو من لقطات إخبارية من شوارع المدن الأوكرانية أن هناك البطلينوس المتغلغلة، والناس لا تنفق استعداداً لأوقات أكثر صعوبة في المستقبل. حيث سبق وأن قال الرئيس زيلينسكي إن أوكرانيا تحتاج إلى ما يصل إلى 5 مليارات دولار لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد. فقد انخفضت أسعار الهورفنيا بنسبة 8.4٪ مقابل الدولار، وهو واحد من أسوأ البلدان أداء في العالم، منذ نوفمبر/ تشرين الثاني، عندما حشدت روسيا قواتها مرة أخرى على الحدود.

إن تصاعد التوتر مازال مستمراً مع اكتمال الخدمات اللوجستية للغزو الآن بنسبة 70%، ما يكذب مقولة من يدعي أن بوتين لديه دبابات، أما الحقيقة فهو يتفاوض مع الدبابات، والموقف تجاه أوكرانيا أكثر خداعاً من النية، فصور المدنيين الذين يتدربون بالأسلحة الخشبية كجزء من مناورات الدفاع المدني في أوكرانيا نفسها تضيف جميعها إلى رواية الصراع الذي لا يمكن وقفه.

وبالعودة إلى ماكرون وزيارته الأخيرة، النتائج تقول إنه لم يتمكن من الحصول على التزام من موسكو وعكس اتجاه الدبابات بعيداً عن الحدود، لكنه تمكن من إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة والاتكاء على الدبلوماسية المكوكية بين بايدن وبوتين. إذا كان فقدان ماء الوجه ومعاملته في استعراض للسلطة من قبل الزعيم الروسي هو الثمن الذي يجب دفعه مقابل ذلك، فليكن ما يعتقده الرئيس الفرنسي.

وكان قد أكد ماكرون في نهاية زيارته، أنه أجرى مناقشة "جوهرية وعميقة" مع بوتين، مع التركيز على الظروف التي يمكن أن تساعد في خفض التصعيد. وأضاف: "لقد حاولنا بناء عناصر متقاربة"، وأن "الأيام المقبلة ستكون حاسمة وهناك حاجة إلى مناقشات عميقة معاً". كما أضاف أنه من واجب أوربا إيجاد حل لمحاولة إعادة بناء علاقات حسن الجوار مع روسيا. وإذا كان ماكرون قادراً على تقديم وإقناع بوتين بتبني خارطة طريق ليس فقط لخفض التصعيد الروسي ولكن أيضاً إلى ما هو أبعد من علاقة مستقبلية أعيد تعريفها بين روسيا وأوربا والولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي وبالطبع أوكرانيا، فهو وقتها سيكون في منطقة جائزة نوبل للسلام.

في كثير من الأحيان، لا يمكن للتوترات المتنامية بين روسيا وأوكرانيا إلا أن تؤدي إلى نتيجتين محتملتين. الأولى هي العودة إلى الوضع الراهن قبل الحشد الاستثنائي للقوات الروسية الذي نشهده اليوم، والثاني هو عندما تعبر الدبابات الروسية الحدود، وندخل في حالة صراع رسمي مع تداعيات عالمية مدمرة محتملة. ومع ذلك، في عصر الحرب الهجينة يمكن القول إن هناك العديد من النقاط الرمادية بين هاتين النقطتين، يمكن أن تحول الصراع بأكمله لمكان متميز.

ورغم كل ما يدار من تناقضات، فلا يدور في الفلك السياسي إلا سؤال واحد من أكثر المسائل الدولية إثارة للقلق بداية عام 2022: هل سيقرر فلاديمير بوتين غزو أوكرانيا أو على الأقل التدخل عسكرياً مرة أخرى في جارة روسيا، التي كانت لعقود جزءاً من الاتحاد السوفييتي؟

من الطبيعي أن ينكر الكرملين ذلك!.
 

ليفانت - شيار خليل

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!