الوضع المظلم
الجمعة ٢٧ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
الغلابة بلا طبيب
شريف حسني الشريف


برحيل الدكتور المصري محمد مشالي الذي عرف بـ«طبيب الغلابة»، تنطوي صفحة مؤثرة من صفحات العطاء، التي عملت في خدمة الإنسانية، من خلال تخديم إطارها المجتمعي على المستوى الصحي، والرعاية الطبية في صمت وقناعة، خفية، وبعيداً عن الأنظار وبريق الشهرة، ونجومية مواقع التواصل الاجتماعي، التي سطع نجم الراحل الكبير عبرها، في الفترة الأخيرة. 


بعد أن لفتت إنسانيته الأنظار، وقيام وسائل الاعلام بتسليط الضوء على مساهمته، وبعد فترة طويلة تجاوزت الأربعين عاماً من العمل في صمت، في ظل سعي حثيث لتحقيق قناعة صاحبها، بأن خير العمل ما كان في السر، وما كان خالصاً لوجه الله بعيداً عن الأضواء، وبريق الشهرة.


تعرّفت على طبيب الغلابة، رحمه الله، من خلال برنامج تلفزيوني يقدم في رمضان، بعنوان “قلبي اطمأن”، يركز على دراسة الحالات الإنسانيّة الصعبة، ويسعى لمسح الألم وتقديم جانب من المساعدة، لتخفيف المعاناة. مما يعيد قليلاً من ألق الفرح لحياة صاحبها.. لكنه رفض وبإصرار عجيب قبول أي نوع من المساعدة، أيّاً كان نوعها وقيمتها، واكتفى بقبول سماعة طبيبة، مع توجيه الدعوة بتقديم المساعدات للجمعيات التي تعتني بتلبية حاجات الفقراء والمعوزين. ورغم العروض المقدمة إليه، على تنوعها، في سعي لاستثمار ربما يكون له بعد إعلامي، وغايات أخرى، أصحابها أعلم بها، وبالمرامي من وراء تقديمها. لم يرضَ بقبول أي منها، معتمداً على مخزونه المعروفي، وخبرته، في السعي لإضفاء ابتسامة صغيرة بحجم العالم لكل قلب، ولكل محتاج إليها. 


يقول دوستويفسكي: “إذا كانت سعادة العالم متوقفة على قتل طفل، فإنّ العالم لا يستحق هذه السعادة”. وما فعله الراحل الكبير، كان السعي الدؤوب لإنقاذ كل طفل، وتقديم العون لكل محتاج، في إعلاء لقيمة الإنسان المقهور، وفي محاولة لتخفيف القليل، من أنين المعذبين في الأرض.


رثاء طبيب الغلابة، هو احتفاء بقامة إنسانيّة سامقة، شكلت مثلاً يفتقر إليه الأكثرية، في إطار مجتمعي منهار بشكل فعلي، أو هو على شفير الانهيار، بفعل عوامل كثيرة ومتداخلة.


قيامه بتطبيب الفقراء والمساكين، على امتداد أكثر من نصف قرن، هو تجسيد حي لقناعاته، ووضعها موضوع التطبيق العملي، تاركاً التحليق في فضاء الوهم، لأصحاب الطوباويات، مع الإدراك الكلي بأنّ الصعوبة لا تكمن في الوصول إلى البداية، والقيام بالخطوة الأولى، والتي كثيراً ما قادت في أحوال شتّى أصحابها للتراجع، بسبب حسابات الربح والخسارة.. بل في الاستمرار والمتابعة، برغم كل العقبات والإغراءات التي قد تكون دافعا قوياً للنكوص. 


الإخلاص للقناعة، ووضعها موضع التطبيق العملي، هو إيمان مطلق بالإنسان وبضرورة السعي لتخفيف آلامه، في ظل طغيان القيم المادية، وتسيّد الشعارات، التي تخفي خلفها العجز والخواء الروحي.


عمل الراحل منفرداً، رصيده الإنساني يبلغ عشرات الآلاف من دعوات الغلابة، الذين عاش من أجلهم ولهم، حتى اللحظات الأخيرة، في ظل صبر وزهد عجيب، وعاش فقيراً كما الفقراء، لم يتوقف عند مظاهر الأبهة، ومقتضيات اللقب العلمي الذي بحوزته، حتى إنّ الرائي لا يكاد يميز بينه، وبين أبسط ساكن من سكان الحي، في المكان الذي يمارس فيه عمله، في ظل اتحاد لا يكاد ينفصل عن روحية المكان، وكينونة الناس البسطاء الذين عاش بينهم، وسعي لمداوتهم، وتقديم الدواء لهم، والاكتفاء بالأجر الزهيد الذي كان يتقضاه منهم، والذي كثيراً ما كان يتغاضى عن قبوله، حين يكون الدفع متعذراً أو غير متاح، في ظل ظروف خانقة تكاد تطحن الحجر قبل البشر، لمن لا يكاد يملك سوى الوجع، فأيّ مأساة أكبر من أن يغدو الإنسان متسولاً في وطنه، لا يكاد يجد الفتات كي يقتات به، حيث يسود التغوّل كافة مظاهر الحياة، ويطبع بميسمه كل شيء.


المشالي هو احتفاء بالطيبة وبالإنسانية المجردة، عن الأهواء، والمصالح، بأسمى بأشكالها، وتكريس لنموذج يصلح دون غيره ليكون مثالاً، وقدوة، يتم التطلع إليها، و السير على هداها، بعيداً عن مفهوم الصدقة والإحسان، حين لا يصبح عمل الخير وسيلة إلى غاية، بل يصبح هو غاية بحد ذاته، في إطار قيمي يصبح الإنسان المغلوب على أمره هو المحور، لا مجرد مساق لتحصيل أية مكاسب، سوى زيادة الرصيد الإنساني لمخزون السعادة، بالعمل على تخفيف الألم.


حين تحيا قناعاتك بشكل صادق وتضعها موضع التطبيق، تكون قد بدأت بمقاربة نموذج إنساني يكاد يكون فريداً، وبدأت بالخطوة الأولى في السير على درب الآلام. ولا تكون محاولات الراحل قد ذهبت في جزء منها سدى، حين كرس نفسه لخدمة قضيته الإنسانية، ذات البعد الأخلاقي، مستعيناً بسماعة صغيرة لكنها تكفي لإيصال خفقات كل القلوب المتعبة إليه، وتمهد لإيصال لمسته لكل من يحتاج إليها.


ختاماً، يمكن القول بأنّ الراحل من خلال إنسانيته المرهفة، وعمله المؤثر قد أضحى أيقونة تشع، داعية لاستمرار رحلة العطاء، ولكن المخاوف تكمن في تأطير هذا النموذج في شكلانيّة فجة، تحتفي بذكرى الراحل، ولا تتبع خطاه. 


ليفانت – شريف حسني الشريف  







 



كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!