الوضع المظلم
السبت ٢٨ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
المجتمع المدني بين التداعي والنهوض
المجتمع المدني بين التداعي والنهوض

عماد غليون


يرتبط انتشار ونشاط منظمات المجتمع المدني في بلد ما بدرجة الحريات المتاحة فيه، حيث باتت تلعب دوراً مهماً في إغناء التفاعل الاجتماعي، عبر إتاحة المجال أمام كافة المكونات الاجتماعية للمشاركة في بناء القرار الوطني، والنضال بحرية لتحقيق مطالبها دون إقصاء أو إلغاء أو تهميش.



يدل مفهوم المجتمع المدني على منظمات وهيئات أهلية غير ربحية، يعمل فيها أعضاء متطوعون لغايات وأهداف محددة ليست سياسية، وتنشط في كافة المجالات الحقوقية والنسوية والاجتماعية والثقافية والدينية وغيرها وعلى شكل جمعيات خيرية.




برز جدل واسع حول مدى مصداقية وشفافية عمل منظمات المجتمع المدني، من حيث التزامها بالحياد وابتعادها عن تحقيق أهداف سياسية وحقيقة عملها التطوعي وعدم سعيها بالفعل جني أرباح، ولم يعد من الممكن في العصر الحاضر تصور الفصل بين السياسة وكافة الفعاليات الاجتماعية، كما أن هناك حاجة لتمويل كبير لقيام نشاط فاعل ومؤثر وهو ما لا تستطيع الجهود التطوعية توفيره .




شاع في البلاد العربية مصطلح المجتمع المدني من خلال دور جمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان ومعتقلي الرأي، لكن الأنظمة الحاكمة وجّهت اتهامات لتلك الجمعيات والمنتسبين إليها بالخيانة والتأمر على سلامة البلاد من خلال الحصول على تمويل خارجي مشبوه، وبالفعل حصلت تلك الجمعيات على دعم غربي واضح ومباشر.




قام البعث منذ انقلابه في أذار 1963 بحظر تشكيل الأحزاب والجمعيات مع منح استثناءات محدودة لبعض الجمعيات الخيرية والدينية، وفرض حافظ الأسد بعد انقلابه عام 1970 قبضة حديدية على كافة مفاصل المجتمع المدني، لكن تمرد النقابات المهنية ضده في الثمانينات دفعه القيام بمزيد من تشديد قبضته عليها، حيث أخضع كافة النقابات والاتحادات والمنظمات والجمعيات تحت وصاية حزب البعث ورقابة أجهزة الأمن والمخابرات، وباتت أي سوري يعيش منذ نعومة أظفاره في نظام شمولي، يجبر خلال مسيرة حياته المرور عبر منظمات تابعة للنظام، من طلائع البعث والشبيبة واتحاد الطلبة، إلى نقابات مهنيين وعمال وفلاحين، واتحادات نسائية وحرفيين وصحافيين وفنانين وكتّاب، وغرف التجارة والزراعة والصناعة، وكافة الجمعيات الخيرية والدينية الأخرى، وأعطى ربيع دمشق في بداية عهد بشار الأسد عام 2000 بعض الأمل بإمكانية إعادة إحياء المجتمع المدني، وتشكلت لهذه الغاية لجان بهذه التسمية انتشر نشاطها في العديد من المناطق السورية، لكنها لم تستطع توسيع عملها خارج إطار تلك اللجان، واتضح للناشطين فيها أنها لا تكفي وحدها لترميم وإصلاح جسد المجتمع المدني المتداعي.




اندلعت الثورة السورية على خلفية تناقضات اجتماعية عميقة وصراعات خفية متراكمة زرعها الأسد بعناية لتثبيت نظامه الديكتاتوري، لكها شكلت فرصة حقيقية لبناء مجتمع مدني عصري بفضل أجواء الحرية التي أتاحتها، رغم أن النتائج جاءت صادمة ومخيبة للأمال.

تركز نشاط المنظمات في بدايات الثورة على تغطية الحاجات الإنسانية الطارئة للجرحى واللاجئين والنازحين، وجرى بسبب ذلك التغاضي عن الفوضى وعدم التنظيم الذي ظهر في عملها، لكنه كرّس صورة نمطية سيئة عنها وتشوهات في عملها بات من الصعب تجاوزها.




مع تدفق التمويل الخارجي ظهرت العديد من المنظمات والجمعيات في مجالات تعليمية ودينية وثقافية وحقوقية ونسوية وطبية وإعلامية، كان يطغى تأثير الداعمين على نشاطها بشكل واضح ومباشر في تحديد أهدافها ومسارات عملها واختيار إداراتها، وكان الغريب مباشرة عملها دون ضوابط تنظيمية أو محاسبية، وهو ما فتح الباب على الغارب أمام ظهور فساد واسع بدا وكأنه أسلوب ممنهج للإفساد وكسب الولاء.




ألحق فشل المنظمات ضرراً بالغاً بصورة ومستقبل المجتمع المدني، وأدى فقدان الثقة بها لإحجام شعبي عن دعمها، وظهر خضوعها بشكل كبير تحت ضغط وتأثير التمويل الخارجي والأجندات السياسية التابعة له، وهما عاملان يجب على منظمات المجتمع المدني تجنبهما كلياً حسب تعريفها.

تركز نشاط المنظمات خارج سورية في دول الجوار وخاصة تركيا التي أتاحت لها العمل بحرية أفضل من لبنان والأردن والعراق، بينما بقي نشاط المغتربين السوريين في أوروبا وأمريكا يتحلى بالحذر الشديد ضمن جهود فردية غالباً وفي إطار منظمات حقوقية وإغاثية طبية، ثم شهد تراجعاً واضحاً مع انخفاض زخم الثورة .




بطبيعة الحال تدهور مستوى الحريات في مناطق سيطرة النظام، لكنها شهدت ظهور منظمات طارئة تعمل لصالح أجندات خارجية طائفية بأساليب تبشيرية، حيث يتم تجنيد الأتباع تحت غطاء التوظيف وتقديم المساعدات.

شهدت المناطق المحررة تحت سيطرة الجيش الحر انتعاشاً جيداً، لكن الفصائل الجهادية والمرتبطة بالقاعدة فرضت فيما بعد قيوداً مشددة على كافة الأنشطة والفعالياتً ومنعت ظهور أي عمل أو نشاط سياسي أو حتى خيري خارج أطرها.




إضافة للعطب البالغ الذي أصاب المجتمع المدني السوري جراء تدمير ممنهج بتأثير عقود من حكم البعث ونظام الأسد، حيث جرى نشر ثقافة الفساد والإفساد والرشوة والمحسوبيات، إلا أنه لا يمكن استبعاد دور العوامل الذاتية السلبية المترسخة في شخصية الفرد السوري، والتي تجعله يبتعد عن العمل الجماعي والتطوعي منه خصوصاً، حيث يرى فيه نوعاً من الإكراه على الالتزام بالواجب، كما أن هناك خلطاً واضحاً بين ثقافة التطوع والعمل الخيري المرتبط بدوافع دينية.

الانتقال من مجتمع متداعي منخور نحو مجتمع مدني فاعل يحتاج عقوداً من الصراعات والتفاعل بين كافة المكونات المجتمعية، ونتائجها هي التي تحدد شكل وصورة المجتمع السوري.


المجتمع المدني بين التداعي والنهوض المجتمع المدني بين التداعي والنهوض

العلامات

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!