-
المعتقلون والمجزرة.. ومؤتمر بروكسل
ربما لسنوات طويلة لن تحدث التجمعات الكبيرة أمام وتحت جسر الرئيس في انتظار المعتقلين والمغيبين قسرياً في السجون السورية، إنها المرة الأولى بتاريخ النظام السوري التي يسمح بها لأهالي المعتقلين التجمع في مكان واحد، وكان قد حدث ذلك بتاريخه، لكن دون إرادته في العام 1987، كما ذكر الباحث والكاتب راتب شعبو في كتابه "قصة رابطة العمل الشيوعي" في العام 1978، إذ كانت قد تجمعت مجموعة من النساء بمنطقة دمشق في منطقة جسر الرئيس، ولم يتجهن إلى أي مكان آخر، وتظاهرن للمطالبة بأولادهن".
إن ما جرى على مدار عدة ليالٍ من تجمع أريد به لفت انتباه العالم إلى أنّ ما يجري هو عملية إطلاق سراح للمعتقلين لديه بغية إرسال رسالة واضحة أنه يعمل على تنفيذ طلبات الدول الفاعلة في الملف السوري عبر الاستجابة لضغوط هذه الدول في قضية المعتقلين والمغيبين قسرياً، رغم أن عدد المطلق سراحهم لم يتجاوز (1100) إنسان سوري حتى كتابة هذه الكلمات، وجاء ذلك في مرسوم عفو رئاسي سنوي بمناسبة عيد الفطر، حيث اعتاد النظام إصدار عفو عن الجرائم الواقعة خلال عام، وبما أن المرسوم هذا العام جاء متضمناً القضايا الواقعة في خانة الإرهاب التي لم تتضمن "القتل"، حيث فتح الباب أمام تأويلات مختلفة بقيت بيد الأجهزة الأمنية، وأضاف إلى العفو بياناً من وزارة العدل جاء فيه: "تنفيذاً لأحكام مرسوم العفو الرئاسي، إلغاء كافة البلاغات والإجراءات (إذاعة - توقيف - مراجعة) المستندة إلى الجرائم المنصوص عليها في قانون مكافحة الإرهاب رقم /19/ لعام 2012، وذلك بحق جميع المواطنين السوريين في الداخل والخارج ما لم يتسبب فعلهم بموت إنسان أو يثبت استمرار انتمائهم إلى تنظيمات إرهابية أو ارتباطهم مع دول أخرى".
إن مرسوم العفو لم يكن يتضمن تحديدات واضحة، إنما أبقى الأمر في يد النيابة العامة أو الأجهزة الأمنية المعنية، لكن ما جاءت به وزارة العدل هو إعادة ربط الملاحقات والمراجعات وتوقيف الانتماء إلى "تنظيمات إرهابية أو ارتباطهم مع دول أخرى".
وهذا يعود تقديره إلى ذات الجهات التي يحق لها إطلاق سراح المعتقلين دون تحديدات ناظمة أو تعريف واضح للتنظيمات الإرهابية أو الارتباط بالدول الأخرى، وذلك يبدو وكأنه العودة من بوابة أخرى إلى مراسيم العفو السابقة في فترة زمنية سابقة رغم كل التفاؤل الذي اجتاح أهالي وذوي المعتقلين والمغيبين قسرياً، والأفراد الذين عليهم (إذاعة بحث، توقيف، ومراجعة)، لذا يمكن القول بالعامية "دبكة خرما".
وتزامن العفو مع ما كشفته صحيفة "الغارديان" البريطانية عن فيديو لمجزرة "التضامن" التي ذهب ضحيتها (41) مواطناً سورياً وفلسطينياً قتلوا وأحرقوا بدم بارد دون أن يرف لمرتكبي هذه المجزرة أي جفن، ودون حتى أن تكلف السلطات السورية ذاتها بفتح تحقيق حول المجزرة، وهذا ما يستدعي تحركاً مختلفاً من المعارضة السورية نحو الدول الفاعلة في مجلس الأمن لإثارة موضوع المجازر التي وقعت في سوريا بين أعوام 2011 وحتى هذه اللحظة، بغية الحصول على قرار المجلس بتشكيل محكمة أممية تنظر في المجازر السورية الواقعة على الأرض السورية منذ العام 2011، وحتى الآن، بعيداً عن الجهة المرتكبة لهذه المجازر، وإذ لم تنجح الدول المعنية في القضية السورية باستصدار من مجلس الأمن بإحالة ملف المجازر إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة تحت بند متحدون من أجل السلام، وما لم يتطور فعل المحاسبة نحو عمل سياسي أممي سيبقى كما هو الحال بفعل محاسبة فردية كما يحصل في ألمانيا وفرنسا حالياً.
إن ملف المجازر المرتكبة في سوريا يحتاج إلى فعل أممي خاص بمحاسبة الأفراد والنظام ومرتكبي مجازر أخرى من قبل جهات أخرى عبر أداة أممية، خاصة، بعيداً عن المحاكم السورية التي قد تتشكل في المستقبل، هذا إذ استطاع الفعل الشعبي والسياسي المعارض انتزاع قرار بالمحاسبة على الصعيد المحلي الوطني، فعملية الخذلان التي تعاني منها القضية السورية بخصوص العديد من الجرائم، منها ملفات مثل "استخدام السلاح الكيماوي، المجازر، الاعتقال، والتهجير القسري"، من قبل الأدوات الأممية المشلولة بفعل "الفيتو" الروسي والصيني، وعدم التحرك الدولي باتجاه اتخاذ قرار تحت البند الأممي "متحدون من أجل السلام" يعمم حالة الإحباط والخذلان العامة التي يعيشها السوريون من الفعل الأممي والدولي الذي لم يأخذ القضية السورية حتى هذه اللحظة على أنها ثورة شعب طالب بحريته، وليست قضية حرب دولية لتصنيف حسابات بين دول وتنظيمات على الأرض السورية، كما أراد لها النظام أن تأخذ مجراها، وهذا ما ساهم في عملية استمراره كنظام، واستمرار الحرب.
إن الفعل الأممي والدولي القاري ما زال يتأمل مع تفاصيل القضية السورية كعمل جزئي إنساني من بوابة تقديم الإعانات الغذائية والمعسكرات للنازحين واللاجئين السوريين، وليس قضية شعب طالب بحريته وصنع ثورة كبيرة دفع ثمنها الغالي والنفيس من أجل تحقيق هذه الحرية، فالقضية السورية ليست قضية شعب يحتاج مساعدات غذائية وإنسانية، بل قضية شعب يحتاج إلى الحرية وحق تقرير المصير في شكل نظامه وحريته وآلية التغيير في بلده الذي يعيش تحت نار الديكتاتورية منذ العام 1963.
ومن سوء حظ الشعب السوري أنه يتشاطر مع "إسرائيل" حدوداً والتي تحتل أرضاً سورية، فالعالم كله لن يسمح بتغيير في سوريا ما لم يأخذ الموافقة من "إسرائيل" القائمة على استمرار "نظام" عرفته وخبرته من قوى معارضة لم تعرفها ولم تختبرها.
ويترافق كل ذلك مع مؤتمر بروكسل السنوي في دورته السادسة تحت شعار "دعم مستقبل سوريا والمنطقة"، المنعقد من العاصمة البلجيكية بهدف دعم برنامج المساعدات الأممية للاجئين السوريين بتاريخ (9-10/5/2022)، الذي يعمل على حشد الدعم المالي الضروري لتلبية احتياجات اللاجئين السوريين والمجتمعات المضيفة لهم في البلدان المجاورة، ومتابعة الحوار مع المجتمع المدني، ويلعب المؤتمر الدور الأساس في دعم اللاجئين والنازحين السوريين، ويعقد المؤتمر هذا العام بدون مشاركة الحكومة الروسية فيه بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا، وهذا ما استدعى بياناً من الخارجية الروسية قالت فيه: "إن مؤتمر بروكسل من دون مشاركة ممثلي سوريا وروسيا، تحول إلى تجمع لمجموعة من الغربيين وليست له أي قيمة مضافة".
وأكد البيان أن مؤتمرات بروكسل "تنزلق أكثر فأكثر إلى التسييس المتهور للقضايا الإنسانية حصراً". وأنّ المؤتمر والدول التي وراءه يساهمان في منع "عودة اللاجئين السوريين إلى وطنهم، بغض النظر عن التدهور المؤسف للظروف الاجتماعية والاقتصادية وظروف المعيشة في الدول التي تستضيفهم".
وكان قد قدم المانحون عشرات المليارات من الدولارات للاجئين السوريين في دول الجوار أو النازحين في مناطق سيطرة النظام ضمن برنامج تشرف عليه الأمم المتحدة. وفي العام الفائت تعهد المانحون في الدورة الخامسة التي عقدت في بروكسل في شهر آذار 2021، بتقديم (4.4) مليار دولار، إلى جانب تعهدات بتقديم ملياري دولار للعام الجاري 2022، لكن الوقائع والمعطيات تؤكد أن الدول المانحة لا تفي بالتزاماتها التي تقدمها في المؤتمر مثلما يحصل في مؤتمر بروكسل كل عام، فالأمم المتحدة تطالب بجمع (10) مليارات دولار لدعم برنامجها لتقديم المساعدات الأممية لملايين اللاجئين لدول جوار سوريا التي استقبلت اللاجئين. ومن المفيد ذكره أن نحو (4) ملايين مدني يقيمون في شمال وغرب سوريا يعتمدون على المساعدات الأممية والدولية.
إن مؤتمر بروكسل يعقد هذا في ظل ظروف دولية غير مواتية، فالغزو الروسي لأوكرانيا قلب الظروف الموضوعية والذاتية للعديد من الدول الأوروبية، حيث شهدت الأسواق الأوروبية موجات غلاء بسبب تعقد شراء الغاز والبترول الروسي، والقمح والزيت الأوكراني والروسي، فهل تستطيع هذه الدول التي بدأت شعوبها معاناة جديدة تقديم ما كانت تقدمه للاجئين والنازحين السوريين في السنوات السابقة؟
هكذا تتعقد الشروط الموضوعية والذاتية الدولية والأممية في تقديم ذات الأموال التي كانت تمنح في السنوات السابقة، في ظل انسداد سياسي وانشغال أممي ودولي وإقليمي بالغزو الروسي لأوكرانيا، وعدم قدرة الدول الفاعلة السير خطوة إلى الأمام في حل القضية السورية، رغم بطء المسار الأممي في اجتماعات اللجنة الدستورية، فهل تستطيع الهيئات الأممية متابعة مسار الدستورية وفتح سلال جديدة، أم أن المراوحة في المكان وتقديم قضايا جديدة مثل ملف المعتقلين والمغيبين قسرياً، وملف المجازر بدأ يفرض ذاته على القضية السورية ككل؟
ليفانت - ماهر إسماعيل
قد تحب أيضا
كاريكاتير
قطر تغلق مكاتب حماس
- November 11, 2024
قطر تغلق مكاتب حماس
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!