الوضع المظلم
الخميس ٢٦ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
بين الفطرة والصناعة في خلق الصورة
هدى سليم المحيثاوي

الفطرة التي هي السجيةُ الطبيعية للإنسان، دون تدخلٍ من علمٍ أو معرفة أو إدراك، تُقابلُها الصناعةُ التي هي علم أو فن يُراد منه خَلقُ شيء لتصلَ في النهاية إلى الإنتاج.

وإذ كان تفجير الثورة السورية عام 2011 لحظة فطرية بامتياز من حيث شروط انطلاقها، كان يُفتَرض أن تتدخل الصناعة في جميع ما تلاها من أحداث وأوقات، وذلك يشمل صناعة الحدث، القائد أو الشخص المركزي وصورة المعارضة السوريَة ككل، هذه الصناعة تتم من خلال رسم صور ذهنية لكل ما سبق، إلاَ أنَ الغرائبية الشديدة أنَ الفطرة هي التي ما زالت الحاكمة العابثة على الساحة السورية حتى الآن.

في مقاله "صناعة زعيم للمعارضة السورية" يشرح الكاتب السوري حازم النهار جهوده المبذولة لإقناع أطيافِ وشخوص المعارضة بضرورة صناعة "زعيم" دون جدوى لتلك الجهود.

بعيداً عن اصطلاح مفردة "المعارضة"، وأتمنى أن يتمَ تجاوزها قريباً كنوعٍ من التصحيح، إذ تأخذ المعارضة صحتها في الشروط العادية والطبيعية لقيام النظام السياسي في البلاد، أي إنها غير صالحة في حالة الثورة والمراحل الانتقالية، لكن علينا أن نُحيي ونضم جهودنا لجهود السيد النهار لى طرح فكرة "الصناعة" التي لم تعرفها المعارضة السورية لا فيما يخص الزعيم ولا الحدث عموماً ولا حتى في صناعة صورتها هي بذاتها.

الصورة الذهنية أو الـ Mental Image الذي ظهر اصطلاحها عام 1908 على يد جراهام دالاس، هي عملية معرفية، أي تقوم على إدراك الأفراد لمعلومات تنشأ من تَلَقي رسائل وبالتالي تكوين اتجاهات عاطفية (إيجابية أو سلبية). هذه الرسائل في الغالب تأتي عن طريق وسائل الإعلام، والذي هو أساسُ صناعة الحدث، إذ يُقال إن الإعلام هو صناعة الحدث وإن لم تصنعه أنت صنعه غيرك. إذاً فالصورة الإعلامية هي الأساس لبناء الصورة الذهنية لدى الجمهور، ويقول شرام (Wilbur Schramm) أنَ 70% من صورنا عن العالم وأحداثه تأتي من وسائل الإعلام.

إذاً الصورة الذهنية التي تهتمُ برصد الأشياء لدى الجمهور من خلال وسائل الإعلام، هي صورةٌ مُصَنعة وليست بالضرورة ما حدث بالفعل، فأحداث الحادي عشر من سبتمبر هي صورتها التي اُعتمد تقديمُها لنا كجمهور وليست بالضرورة ماحدث على الأرض فعلاً، وكذلك صورة المقاومة التي صُنِعَت في أذهان الشعوب العربية، ومؤخراً نرى كيف تطرح كل من روسيا وأوكرانيا صور حربهما وكيف تَجهَد كل منهما في استخدام وسائل الإعلام المُتاحة لتثبيت وتأكيد الصورة التي تقدمها.

وإذا اختصينا من هذه الصناعة صناعة الحدث نؤكد أنَه لا يعني أبداً المشاركة الفعلية في صياغة الأحداث والتخطيط الاستيراتيجي لأبعادها وحجم تأثيرها، وإنما يعني مشاركة وسائل الإعلام في ترتيب أولويات المتلقي واهتماماته وبناء قناعاته وتصوراته تجاه الأحداث، أي كان على المعارضة أن تستخدم منهجيةَ ترتيب الأولويات Agenda setting في رسائلها، وذلك عن طريق اختيارها موضوع الصورة المُراد تقديمُها ثم أي الأجزاء يتم إبرازها، وأي الأجزاء يتم التغاضي عنها، أو عن طريق المبالغة في بعض الأجزاء وإغفال الأجزاء الأخرى.

للصور الذهنية دور كبير في تكوين الرأي العام ذلك أنها اللبنات الأولى التي يتكون منها الرأي العام باعتبار تأثيرها في آراء الناس ومواقفهم، وأي تغييرٍ فيها يستتبع بالضرورة تغيراً في السلوك كما يؤكد بولدنج، وكما رأينا على الساحة السورية تَغيَر الكثير من المواقف خلال السنوات الفائتة اتجاه ما يحصل في سوريا.

تأتي أهميتها من الوظائف التي تقدمها، فأهم وظائفها أنها تُضيِق نطاق الجهل بالآخرين -أشخاصاً وأشياء- وكان مقتل المعارضة السورية في هذه الوظيفة تحديداً، إذ إنها رسخت فجوة المجهول وزادت من تكهنات السوريين قبل غيرهم، عن ماهية الأشخاص، أهدافهم وسلوكهم، لينقلوا هذا المجهول إلى المؤسسات التي انتموا إليها وليعكسوا في النتيجة صورةً مُشوشة ومُبهَمة لدى المجتمع الدولي، ليصفهم الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما بمجموعة المزارعين، ورئيس الوزراء القطري السابق حمد بن جاسم بالسَلَطة، والأسوأ أنها لم تكن ثابتة حتى في "سلطتها" فكانت يوماً سلطة المايونيز (أمريكية) أو سلطة الأوليفيه (روسيَة) أو سلطة الباذنجان (تركية) لكنها بالتأكيد لم تكن يوماً سلطة عربية فكيف لها أن تكون سورية؟

الوظيفة الثانية المهمة التي فشلت المعارضة في استغلالها هي قدرة الصورة على التبسيط وتجاوز التفاصيل من أجل الصورة العامة، لكن على العكس تماماً أغرقت نفسها بتفاصيل المحاصصة والشخصنة وما قدمه النظام والمجتمع الدولي لها من اتجاهات حتى غاب اتجاهُها هي، وربما كان ذلك سبباً في استخدام الكثير من السوريين لصورة النظام كآلية للدفاع عن الذات "Sort of Defense Mechanism"، وهي أيضاً من وظائف الصورة حيث تًتيح للفرد أن يبرر أو يُمنطق كثيراً من أفعاله واتجاهاتها.

الإقناع هو الغاية من مضمون الرسالة المُقدَمة للتأثير في استجابات الآخرين، ويعتمد الإقناع على نوعين من الاستمالات:

إمَا استمالات عاطفية Emotional Appeals أو منطقية Logical Appeals، ولا نحتاج لإثبات لفشل المعارضة في تبني كلتا الاستمالتين، فلا هي نجحت في خلق حاضنة شعبية مبنية على جَمع السوريين على مبدأ هوياتي وطني، ولا استطاعت تقديم القضية السورية بصورةٍ ذهنية تبنت منهجَ صناعتها المُخطَط والمُنَظَم.

يَرجع جزء كبير من هذا الفشل إلى أنَ المعارضة لم يكن لديها يوماً من الأنواع الخمسة التي حددها مورا جفكينز للصورة الذهنية سوى الصورة المرآة، وهي التي ترى المنشأة نفسها عن طريقها، فلم تقترب من الصورة الحالية، وهي التي يرى بها الآخرون المؤسسة، ولم يُعيروا اهتماماً للصورة المرغوبة التي تود المؤسسة انعكاسها في أذهان الجماهير، وبالطبع كانت أفقر من أن تطمح للمُثلى، أمَا الصورة المتعددة فلم تحدث رغم تَعرض الجمهور لممثلين مختلفين من نفس المنشأة إلا أن جميعهم عكسوا نفس الصورة القاتمة.

تتسم الصورةُ الذهنية بالثبات وبالقابلية للتغير في نفس الوقت، ورأينا كيف تحولت الثورة من صورةٍ سلميةٍ وباهية إلى صورةٍ قاتمة ومؤسلَمة، إذ إنها تتألف من مكونات كثيرة من المعلومات والحقائق والمعارف والاتجاهات النفسية تجعلُ دائماً كلتا الخاصيتين حاضرتين، وبلا شك فقد تعرضت الرسالة السورية كثيراً للتلوين، أي المنافسة من رسائل إعلامية أخرى، لكن تبقى صناعة الصورة أهمية وحاجة مُلِحة خاصةً أنها وكما يرى ناهض فاضل زيدان أنها عملية حركية متفاعلة تمر بعدة مراحل تتأثر ببعضها، كما أنها متغيرة حسب الظروف، إلاَ أنَ العمل عليها لا بدَ أن يكون مستمراً.

بينما عمل النظام دائماً على الصناعة، غرقت المعارضة في فطرتها، ليحصد النظام نتائج صناعته ولتحصد المعارضة خيباتها، فكلُ بناء هو عبارة عن تخطيطٍ وتنظيم ومن ثم خطواتٍ وخطوات من أجل التنفيذ، وعلَنا نهتدي لرسالتنا بأدواتها الخاصة فنصل لغايتنا المنشودة.

ليفانت - هدى سليم المحيثاوي

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!