-
تغييب المشروع الوطني وسؤال التغيير والحرية
ليس مستغرباً أن تكون علمانياً وتمتلك إيمانك الداخلي الذي يفسر سر الكون في مقولة الله، ولا أن تكون ابن بيئتك الأهلية والاجتماعية (عروبياً أو كردياً أو معروفياً، ابن الجبل أو السهل أو الساحل أو الصحراء...) وتؤمن بالعقل والحكمة والقضاء والقدر، ومن أبناء أقلية أو أكثرية ما، وأيضاً هويتك الوطنية التي عنوانها السياسي الدولة السورية، والعامة الإنسانية والمعرفة.
من غير المستهجن أن تكون علمياً وباحثاً في أدق ما وصلت له بحور العلم، وتمارس هوايتك بالعزف أو الكتابة الأدبية أو ممارسة صنعة النجارة وشاكوش النجار في الطرق على الخشب هواية، وكثيراً ما تصيب أصابعك به!
هذا ليس جمع نظري للمتناقضات، إلا عند أولئك المصرين على تصنيفنا كسوريين أقليات وملل وطوائف، مثقفين وجهلة، علمانيين ومتدينين... التصنيف المصر على تضخيم الخلاف البيني حول أحقية مظلمة دون غيرها، حكم وسلطة خلاف غيرها. فيما كان وما زال جذر خلاف السوريين مع السلطات التي تحجب عنهم حقوقهم، أمانهم، استقرارهم، هويتهم الوطنية.
لليوم، لا أجد ذاتي على خلاف مع السني على دينه ولا الكردي على عاداته وتقاليده وثقافته ولا الأقلوي في انتمائه الأهلي. ولا أجد ما يسيء للخلاف مع الماركسي والقومي في حرية رأيه. لكني أجد أن الخطأ العام الذي نصر على ممارسته هو تنمية هذه المشاريع وتعظيمها من محيطها الثقافي والأهلي البسيط إلى مشاريع سياسية عامة، مترافقة مع حدة المظلومية التي بتنا نعيشها جمعياً كلّ بطريقته.
أياً يكن، من كان بلا خطيئة فليرجمني بحجر، قول للمسيح ذو عظمة في المعنى والعمق وممارسة الحياة. فالبشر خطاؤون لكن يفلح من يدرك خطأه ويتراجع عنه والأقدر من يعترف به. فإن كان مصدري الخطأ معرفي أو مصلحي حسب الفيلسوف العربي الراحل إلياس مرقص، فمصدر الصواب لا إحداهما وحسب، أي المصلحة أو المعرفة، بل تكاملهما معاً في صيغة وحدة الوجود والصالح العام، وهذه نقطة تحول في مسار هويتنا ووجودنا المهدور لليوم.
في سوريا تنامت شتّى صنوف المشاريع، وتفاقمت شدة الخيالات والأوهام، سياسية ومدنية وعسكرية ودينية وطائفية، حتى لدرجة أنها طالت الفكرية والثقافية أيضاً. فغياب المشروع الوطني، واستفحال المشاريع الخارجية وسوق البلد لاتجاه المصالح الدولية، جعل الساحة السورية العامة خاوية من أرضية بنائية للعمل الوطني، لا تملؤها سوى المشاريع المحلية الضيقة التي تزيد من تعقيد المشهد السوري.
لقد تحولت في السنون الماضية من تداعيات هزيمة الثورة السورية، وتكاثر المحاور الدولية التي ساهمت في ذلك، تحولت أية فكرة، أو شبهة عمل سياسي أو فكري، للاعتقاد بأنها مكتملة قابلة للتحقق لمجرد أن حاملها صاحب نية إيجابية، أو همس له مسؤول عربي أو شرقي بقدرته وبدعمه لها، لذلك لم يعد مستغرباً أن تحاول جهة ملء الفراغ السياسي العام بمشروع ما على مقاسها وأدواتها. والملفت للنظر هنا غياب هذا الترابط العضوي بين المصلحة والمعرفة الذي يسعى لتحقق الصالح العام ويبني في الكلية السورية، في مقابل تزايد النفعية المصلحية الخاصة، طائفياً أو دينياً أو سياسياً، أو تعاظم الأمثولة الفكرية الأيديولوجية لدرجة الوهم.
سوريا اليوم، مسرح للمشاريع الدولية والإقليمية، الأمريكية والروسية، التركية والإيرانية، وكل منها يبحث عن أدوات تنفيذ مشروعه فيها. فيما المشروع السوري لا يبصر النور ويكاد تضيع بوصلته. أما وقد باتت حوامل الواقع للمشروع الوطني السوري لليوم تعاند تمرير هذه المشاريع، وبات صعباً عليها مواجهتها لتشظي الواقع المحلي، فمن الضرورة بآن إعادة النور والتنوير للثوابت الراسخة في الوجدان السوري، إذ لا خلاف مع رجل الدين ولا المجتمع الأهلي ولا بين السوريين عامة إلا حول الحقوق المدنية العامة، وكل من يثير هذا الخلاف هو باحث عن مشروع سياسي يخدم فئته وحسب، مصلحته وفقط، ويخدم استمرار المظالم السورية، والتدخلات والاحتلالات الدولية. بينما احترام الاختلاف في الانتماء الديني تحت عنوان الحقوق الإيمانية المتوازية للكل، واحترام الاختلاف الفكري والثقافي كركائز للحرية الفردية والفكرية، والتماسك المجتمعي القيمي كعنوان للوطنية المجردة، وعدم الانجرار خلف أوهام السياسة الماكرة، وإقامة الحوار السوري العام كعنوان للتوفق العقدي الممكن، هو الممكن الوحيد الواجب تعزيزه لاستعادة الثقة وبناء جدران التواصل العام على أرضية الحق والحرية والكرامة.
ابن خلدون في مقدمة كتابه "العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"، كتب: "عندما تنهار الدول يسود الرعب ويلوذ الناس بالطوائف.. وتظهر العجائب وتعم الإشاعة.. ويتحول الصديق إلى عدو والعدو إلى صديق.. ويعلو صوت الباطل.. ويخفق صوت الحق.. وتظهر على السطح وجوه مريبة.. وتختفي وجوه مؤنسة.. وتشح الأحلام ويموت الأمل.. وتزداد غربة العاقل وتضيع ملامح الوجوه.. ويصبح الانتماء إلى القبيلة أشد التصاقاً.. وإلى الأوطان ضرباً من ضروب الهذيان". فإن كان هناك ما يفسر الحال الذي نعيشه، والذي أتقن وصفه ابن خلدون قبل 1000 عام، فهو أن الدولة السورية المبنية على أسس الاستبداد والعسكرة قد انهارت فعلياً، ولكن لم تتشكل بعد الدولة البديلة. فعلى بوابة القرن الحادي والعشرين تعود عصور السبي والغزو والوأد الحرام، حيث لم تقف المسألة عند حدود البلعمة العسكرية لقوى دولية وميليشيات طائفية وحسب، بل وصلت درجة السياسة والفكر والأيديولوجيات، وهذه المرة ليست بيد السلاطين وحسب بل بين ذوات الطريق الواحد أو المهمة الواحدة المفترضة، كأنه الإفلاس العام يشي بآخر عوارضه من طفح التهكم وجزافية التعميم والخلط بين الرأي والرغبة، وبين المعطيات والأرقام ومعايير الفعل والفاعلية، هذا دون الأخذ بعين الاعتبار احترام الرأي الآخر وحقوقه العامة.
فمن الطبيعي جداً، وهذه قراءة للواقع الحالي وليست رغبة، أن تجد مشروعاً درزياً هنا وكردياً هناك، علوياً أو سنياً أو شيعياً، إيرانياً أو روسياً أو تركياً أو إسرائيلياً، يدعم هذا أو ذاك. وهذا ليس نقصاً أو عيباً في الوطنية السورية، بل هو مجرد محاولات لملء الفراغ العام الذي تعيشه سوريا. وسببه الرئيس عدم ربط الحرية والتغيير في مركب واحد عنوانه الدولة الوطنية، دولة الحق والقانون. وهذا ما يجب أن يدركه الفاعلون والمنفعلون في الملف السوري، وإلا ستبقى الحالة السورية مولدة لعدم الاستقرار العام في داخلها ومحيطها العربي والإقليمي ما يهدد مصالح الجميع. فقيام الدولة السورية مرة أخرى وتحقيق الاستقرار فيها وفي المنطقة وما حولها أساسه التغيير السياسي الذي هو جذر الحريات، والحرية أساس التغيير البنيوي العام المدني والحقوقي، ولا يمكنهما أن ينفكا عن بعض كما تريده مصالح الدول ورعاتها المحليين، أياً كانت عناوين قصيرة النظر.
ليفانت - جمال الشوفي
قد تحب أيضا
كاريكاتير
قطر تغلق مكاتب حماس
- November 11, 2024
قطر تغلق مكاتب حماس
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!