الوضع المظلم
الخميس ٢٦ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
  • جنوب تيرول: درس في التعددية اللغوية والاستقرار لسوريا

جنوب تيرول: درس في التعددية اللغوية والاستقرار لسوريا
شيار خليل

في ظل الأزمات التي تواجهها سوريا اليوم، سواء على الصعيد السياسي، العسكري، الاجتماعي، أو التعليمي، تبدو تجربة جنوب تيرول الأوروبية نموذجًا ملهمًا يُظهر كيف يمكن إدارة التنوع العرقي واللغوي لتحقيق الاستقرار والازدهار مستقبلاً. تُعد منطقة جنوب تيرول، الواقعة في شمال إيطاليا، إحدى القصص الناجحة في تحويل صراعات الهوية اللغوية إلى أداة لتعزيز التعايش. هذا النموذج قد يحمل دروسًا مهمة لسوريا، حيث يمكن تبني سياسات مشابهة لتحقيق الاستقرار بعد سنوات من الصراع والحروب.
جنوب تيرول كانت جزءًا من الإمبراطورية النمساوية-المجرية، لكنها أصبحت جزءًا من إيطاليا بعد الحرب العالمية الأولى بموجب معاهدة سان جيرمان عام 1919. على الرغم من محاولات "إيطالنة" المنطقة وفرض اللغة الإيطالية، تمكن سكانها الناطقون بالألمانية من الحفاظ على هويتهم الثقافية واللغوية. في الستينيات، حصلت المنطقة على حكم ذاتي واسع، وأصبحت التعددية اللغوية جزءًا لا يتجزأ من الهوية السياسية والتعليمية للإقليم.

تُعترف كلٌ من الألمانية والإيطالية واللادين كلغات رسمية في جنوب تيرول، وتستخدم كلها في المؤسسات الحكومية، المدارس، والسياسة. هذه السياسة المتوازنة ساعدت في خلق حالة من الاستقرار والازدهار، حيث يشعر جميع السكان بأن حقوقهم اللغوية والثقافية مصونة. هذا النهج جعل التعددية اللغوية جسرًا للتواصل والتفاهم بين المكونات المختلفة، وليس سببًا للتفرقة والصراع.

هذه التجربة اللغوية والتعددية اللغوية والتعليمية تعد برأي أداة هامة في سوريا مستقبلاً للاستقرار، حيث تعاني سوريا من تشرذم لغوي وثقافي يعكس الانقسامات السياسية والعسكرية في البلاد. يُدرس في المناطق الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا مناهج باللغة الكردية، بينما يستمر النظام السوري في فرض مناهجه الخاصة في مناطق سيطرته، وفي الشمال الغربي، تُدرس مناهج مدعومة من تركيا، مما يزيد من التباين بين المناطق ويُعمق من الانقسامات.

هذه الفوضى التعليمية تسهم في تعزيز الهويات المحلية على حساب الهوية الوطنية الجامعة. بدلاً من استخدام التعليم لتعزيز التفاهم والتواصل بين المكونات المختلفة، أصبح التعليم في سوريا وسيلة لفرض سياسات القوة وترسيخ الانقسامات، وهذا الوضع يساهم في استمرار حالة عدم الاستقرار في البلاد، حيث يشعر كل طرف بأنه معزول ومهدد في هويته وثقافته.

يُظهر نموذج جنوب تيرول أن التعددية اللغوية ليست بالضرورة عاملًا للفوضى أو الانقسام، بل يمكن أن تكون أساسًا لتحقيق التفاهم والتعايش، فالاعتراف باللغات المحلية في المؤسسات الحكومية والمدارس، كما هو الحال في جنوب تيرول، يساعد في خلق شعور بالانتماء لدى جميع المكونات العرقية واللغوية. في سوريا، يمكن أن يكون هذا النهج جزءًا من الحل لإعادة بناء الثقة بين المكونات المختلفة، واستخدام اللغة والوسائل التعليمية كحلول بين الشعوب التي تسكن المنطقة.

على سبيل المثال، يمكن اعتماد اللغات المحلية مثل الكردية، السريانية، والأرمنية بجانب اللغة العربية في المدارس والمؤسسات الرسمية. هذا الاعتراف بالتعددية اللغوية سيساعد في تعزيز الهوية الثقافية والقومية لكل مجموعة، بينما يساهم في الوقت ذاته في بناء هوية وطنية مشتركة تقوم على احترام التنوع واحترام الانتماء القومي والثقافي لكل مجموعة من هذه المجموعات والمكونات السورية. 

ولا ننسى هنا أنه في جنوب تيرول، تُعد التعددية التعليمية ركيزة أساسية للحفاظ على الاستقرار. يُمنح كل طالب الحق في التعليم بلغته الأم، مع ضمان تعلم اللغة الأخرى لتعزيز التفاهم بين المجموعات المختلفة. في سوريا، يمكن تطبيق نموذج مشابه يضمن حقوق التعليم باللغات المحلية، بينما يساهم في تعزيز التفاهم بين المكونات العرقية المختلفة. نظام تعليمي متوازن يعترف بالتنوع اللغوي سيكون خطوة أساسية نحو تحقيق استقرار طويل الأمد، حيث يشعر الجميع بأن حقوقهم الثقافية واللغوية محترمة.

لقد أثبتت تجربة جنوب تيرول أن الاستقرار الاجتماعي والسياسي يمكن تحقيقه عبر الاعتراف بالتعددية اللغوية والثقافية في التعليم والسياسة. إن غياب هذا الاعتراف في سوريا، واستمرار تعدد المناهج دون رؤية شاملة بسبب حكومات الأمر الواقع والنظام الديكتاتوري في اللبلاد، يُعمق من الانقسامات ويُعزز من حالة عدم الاستقرار، وهنا تحديداً على المهتمين بالتقارب السوري-السوري من كافة المكونات الاهتمام والتريكز على التعليم ليكون أداة لبناء الثقة بين مختلف المكونات، وليس وسيلة لفرض الأيديولوجيات السياسية.

ومن هنا أرى أن سوريا بحاجة إلى إعادة صياغة نظامها التعليمي ليعكس تنوعها الثقافي واللغوي، ويمكن أن تكون خطوة الاعتراف الرسمي باللغات المحلية وتطبيقها في المدارس والمؤسسات الحكومية بداية نحو مصالحة وطنية شاملة في حال الاستقرار السياسي والعسكري العام وسط الفوضى الحالية والتشتت السياسي، مثلما ساعد الاعتراف بالتعددية في جنوب تيرول على تحقيق التعايش السلمي، فإن الاعتراف بالتعددية في سوريا يمكن أن يسهم في بناء مستقبل أكثر استقرارًا.

تُقدم تجربة جنوب تيرول نموذجًا حيًا يُظهر كيف يمكن للتعددية اللغوية أن تكون أداة لتحقيق التعايش السلمي والاستقرار، بدلًا من أن تكون عاملًا للصراع. في سوريا، حيث يسود الانقسام العرقي والسياسي-العسكري، يمكن أن يكون هذا النموذج مصدر إلهام لبناء نظام تعليمي وسياسي يعترف بالتنوع ويعززه. 

الاعتراف بالتعددية اللغوية في سوريا ليس فقط مسألة حقوق، بل هو ضرورة لتحقيق الاستقرار وبناء مجتمع متماسك. يجب أن تُدرك سوريا أن التعليم هو أساس أي مستقبل مستقر، وأن الاعتراف باللغات والهويات الثقافية هو المفتاح لبناء هذا المستقبل، ذلك مثلما أثبتت جنوب تيرول أن التعايش السلمي ممكن حتى بعد تاريخ طويل من الصراعات، يمكن لسوريا أن تتعلم من هذه التجربة في سعيها نحو السلام والمصالحة الوطنية.

يذكر أنه تأتي هذه المقالة على خلفية الجولة الدراسية التي يقوم بها المركز الأوروبي للدراسات الكردية  
بالتعاون مع مركز أبحاث يوراك تحت عنوان «المشاركة السياسية في جنوب تيرول: إلهامات لعملية السلام السورية». حيث تهدف الجولة إلى استكشاف التجربة الفريدة لجنوب تيرول والاستفادة منها في سياق الأزمة السورية، التي تتطلب حلولاً مبتكرة للتعامل مع التنوع العرقي والطائفي وضمان حقوق جميع مكونات المجتمع السوري.

ليفانت: شيار خليل 

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!