-
حين يصمت "الدونر"
حين يصمت "الدونر"
نور مارتيني - كاتبة صحفية سورية
أتابع مسلسلات الموت اليومي المجاني، وأتنقّل بين أرجاء العالم الذي بات افتراضياً بحق، فالبيوت المتلاصقة فيزيائياً بات يفصلها عن بعضها ألف قرن في العوالم الافتراضية، وكلّ يغني على ليلاه. قد تكون هذه الحالة صحية إلى حدّ ما، وخروجاً على ظواهر القطعنة التي عايشناها سابقاً، سيما وأن المواطن الشرق أوسطي على وجه العموم، والسوري بشكل خاص، كان ينهل معارفه وعلومه من منهل آسنٍ، ارتآه له صنّاع القرار، بما هو كافٍ لتدجينه وترويضه، وضمان تبعيته العمياء لهذه الأنظمة المهترئة.
غير أن ما لم يخطر لي ببالٍ قط، أن أكتشف أنّ كثيرين ممن تملّصوا من سلطة هذه الأنظمة، باتوا مرتهنين لسلطة الدونر، الذي يحرّكهم بما يتفق حقيقة مع أجنداتٍ تضمن للأسف استمرارية سلطة هذه الأنظمة على مواطنيها، وإن كانوا خارج البلاد.
لا يحتاج الأمر للكثير من التحليل والتركيب كي يصل المرء إلى هذه النتيجة، إذ يكفي أن تشاهد التضامن الهزيل مع مصاب محافظة إدلب، كي تكتشف أن لا أحد مستعد للتضامن سوى عبر منشور خجول، وكأن هؤلاء الذين تنهال عليهم القذائف، والبراميل والصواريخ، ينتمون إلى كوكب آخر. رغم أن الغالبية الساحقة لهم أقرباء مهجّرون هناك، والبعض ما يزال أهلهم مقيمين فيها تحت الناربشكل مباشر.
شخصياً سعيدة جداً بهذا الحجم الضحل من التضامن، فبحكم التجارب السابقة، ما من أحد على استعداد للتضامن، ما لم يجد مانحاً أو "دونر" يدفع له ثمن الهتافات التي سيهتفها، والدموع التي سيذرفها، والخطابات الرّنانة التي سيلقيها على الأسماع، ولكن متى "يحلّ كيسه" هذا الدونر، ويجزل العطايا لمتسوّليه؟ ومن يكون هذا الدونر؟
في الواقع أن غالبية مموّلي هذا النوع من الأنشطة هم من منظمات المجتمع المدني، والتي يفترض أنها حيادية، غير أنّ ما يحدث على أرض الواقع مغاير تماماً، فهذه المنظّمات ليست على استعداد لتسليط الضوء على أي ظاهرة، مالم يكن هنالك ضوء أخضر من قبل الدول الراعية، وهي قسمان: عربية تحمل صبغة إسلامية، وبهذا فهي موجّهة نحو جمهور بعينه، والأجندة الدينية هي الأساس لديها، ولهذا انصرف اهتمام القائمين عليها على الترويج لهذه الأجندة على حساب الثورة السورية، وكأن السوريون الذين خرجوا على هذا النظام، كان يتحرّكون بموجب دوافع دينيةً. سيما إذا وضعنا في الحسبان أن هذا النظام لطالما حابى التنظيمات الدينية على اختلاف مشاربها وانتماءاتها، وصنّعها، وسمح لها بالانتشار، إلى أن باتت له حاضنة لا يستهان به من مريدي هذه المجموعة أو تلك.
كلّ هذا أسهم في تراجع حالة التضامن العالمي، وحتى المحلّي في بعض الأحيان مع الثورة، فالمجتمع الدولي جاهز دائماً للجم الدول الراعية لهذه المنظمات، وهي بدورها، تعرف تماماً أنه غير مسموح لها أن تدفع نقوداً لدعم نشاط غير مرضيّ عنها من قبل الدول الراعية، ومن بين هذه الأنشطة، حملات التضامن مع المدنيين، ولهذا انصرفت هذه الجمعيات والمنظمات إلى جمعيات دعوية، تمتهن التسوّل باسم الدين!
قسم آخر من هذه المنظمات، هو تلك المنظمات التي تتستّر وراء دعم المرأة والطفل، لصرف النظر عن الثورة وما يجري في الداخل السوري، فالقائمون على هذه المنظمات يشترطون الحياد في تقديم الدّعم، وبالتالي تمكّن مؤيدو النظام من اختراق هذه المنظمات، سواء أكان في المواقع القيادية، أو من خلال مستفيدين يسافرون ويعبرون الحدود إلى تركيا لتلقي حصتهم من الدعم غير المشروط، ثم يعودون محمّلين بتقارير عن الوضع هناك، ويتقاضون ثمن المهمة من الأجهزة الأمنية. أما أصحاب المشروع فيكفيهم أن تستمرّ المنظمة بدعم مشاريعهم، حتى لو كان على حساب النساء والأطفال الذين يقتلون، ويلتحفون العراء في الشتاء القارس، فهؤلاء لا يشملهم مبلغ الدعم!
وبهذا باتت النساء مرتهنات هنّ الآخريات لأجندة الدول المانحة، والتي تقدّم الدعم للنساء والأطفال بيد، وتعطي النظام وداعميه الدوليين ضمانات بضبط الشارع المعارض، المتواجد خارج الأراضي السورية باليد الأخرى..
أما المنظمات الإعلامية فمهمتها أسهل، إذ يكفي أن تعين مجرماً منتدباً من قبل النظام أو داعميه، لتسكت الأصوات المحتقنة، وتدجّنها بدعوى الحياد والموضوعية، وأن تبثّ تقارير سخيفة، وتقدّم برامج ساخرة أقرب إلى التهريج المبتذل، لتصرف الاهتمام عن المتضرّر الحقيقي، وتشتري ذمم إعلاميين يفترض أنهم معارضين، برواتب مجزية، تخولهم العيش في مستوى من الرفاهية، تضمن من خلاله أن بوصلتهم ستتحول عن معاناة الداخل السوري، نحو البوصلة الجديدة المتجهة إلى متطلبات الحياة الفارهة، وبالتالي تجهض ثورة بأكملها، وتترك الناس نهباً لأوجاعها ومعاناتها، فيما أنت تسير بهدي مديرك "المحايد" و"الموضوعي"!
لكلّ هذه الأسباب، سعيدة أنا أن أياً لم يخرج في حملة أو قفة تضامنية مع إدلب، إذ أن هذا يعني أنه ما يزال هنالك أمل بالنجاة، سيما وأن المال السياسي لم يتحرك، ما يعني أن إدلب ما زالت بخير، وأن قراراً دولياً لم يتخذ بالإجهاز عليها.. فدموع التماسيح اعتدنا أن نشاهدها تذرف في الوقفات التضامنية مع المدن والبلدات، سواء في الداخل السوري، أو في تركيا، أو حتى في دول الشتات، ولكن قبيل إتمام صفقات دولية كفيلة بتسليمها للنظام، ولا أدلّ على ذلك من وقفات التضامن مع مدن وبلدات الغوطة، أو مع حلب، وهلمّ جراً..
أهلي في أدلب..ما زال الأمل موجوداً، وتأكّدوا أنكم ما زلتم بخير، مالم نخرج في شوارع تركيا وأوربا ، ونرفع عقيرتنا بالهتاف.."أنقذوا إدلب!"..
حين يصمت "الدونر"
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!