الوضع المظلم
الخميس ٢٦ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
سوريا مركب بلا وقود
 مصطفى سعد

إذا أردنا أن نصوغ من مأساتنا الأحدث لقطة درامية، وبعيداً عن أي حديث سياسي، يفترض الخط المنطقي للأحداث أنّ قارباً بلا وقود يتجه حكماً نحو كارثة، أنّ قارباً كل من اعتلاه راهن بآخر ما يملك على أمل أن تُكتب له النجاة -على يد لصوص- هو لا محالة يتجه بهم نحو حتفهم.

ويبدو أنّ هذه الحقيقة أدركها -ولو متأخرين- أولئك الذين راهنوا على النجاة بالبلاد وعلى أرض البلاد، فحُرموا من وقود العيش، ليغرق الجميع عند عتبات منازلهم، لأن اللصوص المسؤولين عن رحلتهم ابتلعوا ثمن الوقود وأرسلوهم في قارب بلا كهرباء ولا مازوت ولا غاز!

الحديث اليوم عن سوريا "متجانسة" بكل أقطابها، أو يصح أن نقول سوريا "المفيدة" متجانسة وسوريا الشمال متجانسة، وسوريا الشمال الشرقي متجانسة، وكذلك سوريا الجنوب متجانسة بشكل ما، ليشكل مجموع "السوريات" لوحة فسيفسائية قلّ نظيرها تتفرد في قبحها وقسوتها ودمويتها.

الغريب في الأمر أن سلطات الأمر الواقع في كل السوريات السابقة ترفع رايات النصر، في "سوريا المفيدة" مثلاً: انهزمت المؤامرة الكونية على أعتاب بلد الصمود والتصدي قلب العروبة النابض، وتم دحر الإرهاب وخرج المندسون والعملاء ووسائل الإعلام أعلنت النصر الكبير، بعد أن تلاشت رائحة البارود من الهواء وحلّ مكانه عبق الياسمين. حتى إن أحد الفنانين المتحمسين الذين أثاروا سخرية واشمئزاز عشرات آلاف السوريين على امتداد المعمورة، وبمختلف هوياتهم الفرعية، بنشره لمقاطع الفيديو التي يبثها عبر وسائل التواصل الاجتماعي رافعاً شعار "لا للتطبيع" ويردفه بـ"نعم للتحرير، وكأنما تم تحضير الاتهام لكل من يرفض التحرير على طريقته بأنه حتماً من أنصار التطبيع.

عزيزي الفنان المتحمس: من الذي يصنع التحرير؟ إن كنت لا تعلم سأخبرك.

الشعوب هي من تقوم بفعل التحرير، الشعوب الحرة القوية، وشعبنا لن يقوم بالتحرير "حالياً" لأنه ليس من أولوياته.

الشعب الذي ما زال يبحث عن العشرات من أبنائه وأطفاله الذين غرقوا في يوم واحد دون ذكر خبر واحد في إعلام السلطة الرسمي عن موت أي سوري في القارب، وبقرار من الأوقاف تم منع إقامة صلاة الغائب على من فُقدوا. لكنّ تشييع جثامين الغرقى في محافظة اللاذقية التي استمرت لأيام بمنظر مهيب لن يتكرر كان مشاركة في رثاء أنفسنا لا الموتى، كان صراخاً على حالنا اليوم، كان تحية للذين اختاروا أن يستقبلوا ملك الموت ليأخذهم بعد معركة في البحر، ولم يقتنعوا أن يموتوا ذلاً وقهراً.

عزيزي الفنان المتحمس هل تعلم ثمن تكلفة الصعود لقارب الخلاص وماذا يعني ذلك؟ إن كنت لا تعلم سأخبرك.

ثمن الصعود آلاف الدولارات وهذا يعني أن كل الذين اختاروا هذا الحل ليسوا من الفقراء الذين لا يملكون سوى حلم السفر، كما أنهم ليسوا من منطقة أو طائفة واحدة. وهذا يعني أن الفقر والحاجة والمرض وفقدان الأدوية وانقطاع الغاز والكهرباء والبنزين والمازوت واستحالة وجود مقعد في وسيلة نقل عامة، كما يطيب للآخرين الحديث، ويعملون بجد ومواظبة لتغطية الشمس بالغربال، ليشتموا الولايات المتحدة وقانون قيصر والغرب الاستعماري رغم "انتصارنا" عليهم، وبالتالي إظهار براءة السلطة من كل إخفاقاتها التي أدّت إلى كل ما سبق.

عزيزي الفنان المتحمس لماذا أحلام اليقظة عند السوريين -كل السوريين- تتمثل في الهجرة والرحيل؟ إن كنت لا تعلم سأخبرك.

فشل الحل السياسي والقضاء على أي صوت قد يعكر "التجانس" وإن كان سلمياً ويطرح التسوية السياسية وتنفيذ القرار 2254، جعل الخلاص الفردي هو الحل الوحيد، والخلاص هنا قد يكون الموت وجميع الموتى يدركون ذلك.

عزيزي الفنان المتحمس أعرف أنك لا تريد أن تعرف لكن سأخبرك أنّ أقوياء السلطة القوية حجزوا كل المنتجعات السياحية (5 نجوم) ولا يوجد غرفة شاغرة وكلفتها في الليلة الواحدة تعادل راتب 5 أشهر لعامل في هذه المنتجعات، بينما ضعفاء الدولة الضعيفة ليس لديهم جهاز تصوير رنين مغناطيسي في كل مشافي اللاذقية، وللأمانة ما من مستشفى إلا ويوجد فيه جهاز "بس معطل"، وهذا يعني أن ينتقل المريض إلى مدينة جبلة أو يدفع قرابة مليون ليرة ثمن للصورة.

عزيزي الفنان المتحمس، ابتعاد الناس عن نشرات الأخبار، عدم اهتماماتهم بانتخابات الإدارة المحلية ومجلسي المحافظة والمدينة، رغبتهم بالرحيل، انتشار أكبر لريم السواس بعد موقف رئيس نقابة الفنانين منها (لما يمثله من سلطة)، زيادة الهجرة غير الشرعية، الصمت عن الظروف المعيشية غير الإنسانية والتفاوت الطبقي، وغياب أي شكل من أشكال العدالة الاجتماعية، زيادة معدلات الانتحار والإدمان، كل هذا ألا يدلك على فشل الدولة باستيعاب مواطنيها، وعلى أن تخليهم عنها ما هو إلا رد فعل متأخر على تخليها عنهم؟

عزيزي الفنان المتحمس أنا أشكرك كثيراً، ومدين لك بدين ثقيل وكبير، لأنك أضحكت عشرات الآلاف من شعبنا الحزين، أكثر من ظهورك وإطلالاتك نحن بحاجة لأمثالك بين فترة وأخرى، وأنا سأقول لك: واحد اثنين ثلاثة اتكل على الله، في الوقت نفسه سيتكل السوريون على الله ليس للتحرير الذي تطالب به، بل لارتداء المايوه وعدة الغطس كلباس سوري رسمي وموحد.

ليفانت - مصطفى سعد

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!