الوضع المظلم
الأحد ٢٢ / سبتمبر / ٢٠٢٤
Logo
  • مخرجة قفص السُكر زينة قهوجي: دمشق مدينة مخيفة ومحدودة.. هذه هي المشكلة

مخرجة قفص السُكر زينة قهوجي: دمشق مدينة مخيفة ومحدودة.. هذه هي المشكلة
ميرنا الرشيد

كيف يمكن لأول مدينة سكنها البشر منذ زمن بعيد جداً أن تصبح موبوءة بالخوف؟ كيف يمكن للارتباط بمدينة تعاقبت عليها حضارات وثقافات كثيرة أن يصبح همّاً ثقيلاً؟ هل تُلام المدينة على حاضرها أم يُلام ساكنوها؟ إنّ رصداً واحداً ومشاهدة يتيمة لشوارع دمشق وأبنيتها وحاويات قمامتها وأهلها يكشفان مسار الأحداث فيها إلى ما لا نهاية. هنا، يمارس الساكنون أفعالهم بتكرار نمطي ومخادع إلى الأبد.

لم يعد مجدياً البحث في الماضي وما حدث لإيجاد حل للحاضر، فحاضر دمشق هو ماضيها، كأنّ حركة الزمن فيها معطلة. هل من الممكن قطع الصلة مع كل ما حدث ويحدث بشكل نهائي وحاسم وأن نحيا بأصالة من جديد؟ ربما هذا ما ينبغي فعله!

في الحوار الذي أجريته مع المخرجة السورية زينة قهوجي، صانعة فيلمي خيال وقفص السُكر، الحائزين على عدة جوائز، حكت بصراحة ومن دون مواربة عن علاقتها بالمدينة التي وُلدت فيها، وعلاقة مدينتها بالزمن، هذه الفكرة التي نقلتها بوضوح العارفة والمختَبرة بذكاء لكل الظلال المنعكسة من مجتمع يمقت الحاضر ويخطط لمستقبل قد لا يأتي ويستثمر في ماض آفل.

تعرفت إلى زينة نهاية عام 2019، ترافقنا سوياً في رحلة دراسية إلى المالديف، كنا، من دون أن ندري، نبحث معاً عن سبيل للخروج من القفص. بدأنا بعد عودتنا إلى دمشق نحصي الندوب، وتواسي واحدتنا الأخرى. خدعنا أنفسنا في بعض المرات، وظننا أنه من الممكن إنجاز شيء وتعويض ما فات. استغرق الأمر من زينة سنتين من الناحية الزمنية لتحسم الأمر بالمغادرة نهائياً، وطور حياة بأكملها من الناحية الذهنية والنفسية، وأما أنا ما زلت هنا أطرح أعداد المغادرين من أعداد المتبقين، لأحصي كم من الأموات ستشيع المدينة.

*ربما يكون سؤال التعريف عن النفس، على الرغم مما يوحيه ظاهرياً من بساطة، سؤالاً يتلكأ معظمنا في الإجابة عنه، ذلك أن هويتنا الخارجية وما نفعله في حياتنا اليومية قد لا يدلان علينا في حقيقة الأمر، كأننا بذلك نحكي عن شخصين أو أكثر في شخص واحد، لكن بما أنه لا مفر من التعريف، حدثينا عنكِ، من هي زينة قهوجي؟ وماذا يثير سؤال كهذا في داخلك؟

صراحة، من الصعب الإجابة عن سؤال كهذا، ولا أعرف ما هو السبب. يأتي الإرباك من التعريف عن الهوية الشخصية، هنا أسأل نفسي، هل أعرّف عن نفسي بمهنتي، أم أحكي بضعة سطور معتادة أكررها في السيرة الذاتية، وهي تدل على اسمي الذي يناديني به الناس، وأعرف نفسي من خلاله، وعُمري الذي ناهز الخامسة والثلاثين عاماً، وأنني سوريّة الجنسية، أعيش حالياً في بلجيكا. ربما تكون هذه المعلومات شكل من أشكال الهروب من مواجهة حقيقة التعريف عن النفس.

في بعض الأحيان، عندما نسأل من نحن، يتضح أننا لا نتمتع بإدراك كامل لمعرفة من نحن، ولا نستطيع أن نحدد شكل هويتنا الحقيقية. عندما أتعرض لسؤال كهذا، أحتار فيما إذا كان السؤال عن مهنتي وما أفعله في الحياة، أم عن إدراكي لذاتي. لكن في حال أردت الابتعاد عن الفلسفة والإجابة، فأقول لقد حاولت أن أصبح مخرجة أفلام وثائقية، ودعمت شغفي بالدراسة، وقررت أن يكون مجال عملي نظراً لأنني أميل إلى الفنون والآداب، لكن هل يمكن أن أقول عن نفسي أنني مخرجة أفلام وثائقية، دعيني هنا أضيف الكلمة المتعارف عليها، وهي أنني مخرجة صاعدة، فأنا ما زلت أضع الأساسات في مهنتي، ولم أصل إلى مرحلة النضوج، وما زلت أتعلم، ورصيدي العملي لا يضم العديد من الأفلام، وأعتقد أن طبيعة الظروف التي مرت علينا في سوريا كانت سبباً في ذلك، كما بددت الحرب والهجرة إلى الخارج آمالنا في الاستقرار والتأسيس لمسار مهني.

*لماذا اخترتِ السينما الوثائقية دون غيرها؟ هل الاختيار نابع من رغبة شخصية فقط بعيداً عن أي مساومات؟

درستُ في البداية الأدب الإنجليزي في جامعة دمشق، وكنت شغوفة بالآداب والفنون، لكن بيئة أهلي الشامية والمحافظة جداً، والتي لا تتقبل الفن وتعتبره "ساقطاً"، فرضت عليّ النظر إليه من بعيد، من دون أن أتخيل أنه يمكنني الوصول إليه في يوم من الأيام، لذلك بقي التفكير بالتمثيل والمسرح ضمن حدود الفرجة، وصفحات الكتب الأدبية التي اعتدتُ على مطالعتها منذ أيام الدراسة الثانوية. بعد التخرج، صممتُ أن أعمل في ميدان إبداعي، لم يكن حينها الخيار واضحاً، كل ما أردتُه في البداية هو فرصة عمل.

وفِقت بعد عام ونصف تقريباً بالعمل مساعدة منسق توزيع في شركة إنتاج أفلام وثائقية، تعرفتُ فيها إلى ما يُسمى بسينما المؤلف والسينما المستقلة والإبداعية، وغذيت ذائقتي البصرية. انتهى عملي في الشركة بعد عام وبضعة أشهر، وبصراحة شديدة، كان لمحيطي الضيق الرافض للفن أثر على قراري، فبحثت عن معادلة تُجنبني النبذ العائلي وترضي ميولي في الوقت نفسه، فأنا أحب أهلي وجيراني، لكني لم أكن ناضجة لأفرّق بين حبي لهم وعدم الخضوع لرغباتهم.

سبب لي هذا الأمر مشكلة داخلية لاحقاً، لم أعد أعرف ما هو الطريق الذي عليّ أن أسلكه، وما السبيل إلى الوصول، خاصة بعد احتكاكي بالوسط الثقافي في دمشق، وما تبين فيه من استغلال وفساد، لقد كان الصورة النقيضة للمحيط الذي نشأت فيه، كان وسطاً منفتحاً جداً لدرجة أنه قد لا يتقبل الآخر المختلف، لقد كان محيطاً غير صحي برأيي.

ما أود قوله أنني اخترتُ السينما الوثائقية لأنها سحرتني بالتأكيد خاصة المستقلة منها وسينما المؤلف، فهما بعيدتان عن التمويل التلفزيوني والبروباغندا، وتعتمدان على صناديق ثقافية وفنية، وما هذا ما يمنح الأفلام المنتَجة بهذا الشكل درجة أكبر من الإمتاع والأصالة والغوص في تجارب وقصص شخصية أكثر بعيداً عن توثيق الحروب والظواهر الطبيعية، بهذه الأفلام يكون دوري مثل الفنان التشكيلي الذي يرسم لوحته معبراً عن عوالمه الداخلية، فأرسم الحكاية من زاوية رؤيتي، وهذا بالتأكيد يتطلب بحثاً ودراسة، ولا يكون العمل عشوائياً، إنه يبدأ بالكتابة والبحث ويمتد إلى ربط الحكاية بسياق اجتماعي وسياسي واقتصادي، وهذا ما جعلني أعي أن قصصنا البسيطة هي انعكاس لواقع أكبر نعيش فيه.

*استكمالاً للسؤال السابق، هل من الممكن أن يكون للمكان الذي وُلدتِ فيه، وهو دمشق، دور في اختيار الأفلام الوثائقية، إذ إن إنجاز فيلم في سوريا يتطلب الخوض في إجراءات ورقية مملة، والخضوع لإملاءات الرقابة الفنية، وهذا من شأنه أن يعطل العمل، ويبدد رغبة صانع أو صانعة المشروع الفني. في فيلم قفص السُكر استطعتِ تصوير المشاهد بأكملها في بيتكِ متفادية المرور بكل الإجراءات الروتينية والرقابة، ماذا تقولين عن هذا الأمر؟   

اخترتُ السينما الوثائقية لأسباب شخصية بحتة، كما وضحتُ سابقاً، وكان هذا قبل عام 2011، حينها كانت الدراما التلفزيونية تحقق شيئاً فشيئاً تغييرات بسيطة برفع سقف الموضوعات المطروحة، وكنتُ أعتقد أن بدائل الإنتاج قد تكون متاحة. حقيقة الأمر، لم آخذ تعقيدات الإجراءات والرقابة الفنية على محمل الجد، لكن اتضح أن موافقات تصوير الفيلم الوثائقي لا تختلف عن الروائي.

بالنسبة إلى قفص السكر، بدأتُ التصوير عام 2012، وانتهيت عندما بدأت إنتاجه عام 2019، صورت بكاميرا منزلية تفاصيل حياتنا اليومية، ولم يكن لدي تصور عن مدة الفيلم ومكان العرض وكيفية الإنتاج وكل ما يتعلق بالعملية الفنية، وبما أن جميع المشاهد كانت داخلية بعيدة عن الشارع، جنبني ذلك روتين الموافقات، وسعيت إلى إنتاجه خارج سوريا، لإحساسي بالخوف وعدم الأمان وأنني مقيدة فكرياً حتى إن كنتُ أروي قصة شخصية، وأعتقد أن مخرجة مثلي مستقلة وغير تابعة لـ"شللية" الفن، ولم ألجأ للمؤسسة العامة للسينما، لن أحظى بفرصة عرض الفيلم في بلدي، حيث منصات العرض فيها محدودة وقديمة وملكيتها حكومية، وفيها سينما خاصة واحدة، تعرض الإنتاجات التجارية والهوليودية، وبعيدة جداً عن تنظيم عروض ثقافية وسينما مستقلة إبداعية.

*في الفيلم دلالة على حلاوة ما يعيشها كثيرون منا لكنها ممزوجة بطعم الأسر داخل القفص، لدرجةٍ تصبح فيها هذه الحلاوة علقماً إذا ما قورنت بمذاق الحرية التي ينعم بها سرب اللقالق المحلقة في السماء، وهو المشهد الافتتاحي في الفيلم، ما هو ثمن العيش خلف القضبان برأيكِ، وهل تمكنتِ من خلعها والخروج من قفص السُكر أم ليس بعد؟

قفص السكر هو رمز للوطن، المكان الذي ولدنا فيه وتشبعنا بلغته وثقافته، ونهتم بأناسه المحيطين بنا، ونشعر معهم بالأمان، إنه المحيط الآمن، وبرأيي ليس من الخطأ التماهي مع هذا المحيط لأننا نكون على دراية وفهم لحسه الفكاهي ولغته والاجتماعية، ومن الجميل أن نؤثر ونتأثر به، لكن مع الأسف هذا الانسجام المفيد لم يكن حاضراً في سوريا، فالزمن فيها معطل، يلازمك الشعور أنك سجينة مع أناس سُجنوا قبلك، وسُدت الأفق أمامهم، وأُغلقت عليهم أبواب الماضي، وقلت فرص الحياة والتطور لديهم، ويؤمنون باعتقادات لم تعد موجودة في الخارج.

ثمة فارق زمني هائل بين ما يعيشه الناس في سوريا، وما يحدث خارجها، وهذا ما يحكيه قفص السُكر، أن تعيشي داخل الوطن، ولا تفارقيه، وتتبادلي معه الأخذ والعطاء، لكنك تكتشفين مع الوقت أنه مكان قاسٍ ومرعب ومحنط كالمومياء، ومهما حاولت خلق مساحات للعيش فيه، تتجمد حركتك، وتصبحين عاجزة في الوقت نفسه عن إيجاد تفسير لذلك.

الخروج من قفص السكر لا يعني مغادرة البلد فقط، إنه هجرة متكاملة، نفسية وفكرية وثقافية وأيديولوجية ولغوية، وهذا ما يواجهه جميع المهاجرين، لذلك ثمة من يغادر سوريا مكانياً فقط، ويعلق عند عتبة الذكريات، وبرأيي لن أستطيع أن أغادر قفص السُكر في حال لم أكسر الرمز الثقافي المتعلق بقيم وعادات مجتمعية قديمة، وأسلوب الحياة النمطي، وهذا أمر لن يتحقق بين ليلة وضحاها، ومثلما استغرق تصوير الفيلم سبع سنوات مع كل التكرارات التي تحدث يومياً، أعتقد أنني بحاجة إلى هذه السنوات أو أكثر لأخرج من القفص بكل ما فيه من تبعات نفسية، ناهيكِ عن أن ما حدث في سوريا كان بمثابة صدمة للجميع على المستوى الشخصي والعام، لذلك الخروج هو عملية قاسية، والهدف ليس فقط المضي قدماً والعيش بخفة، بل أن نتصالح مع هذا المكان الذي خرجنا منه، وأن نعود إليه في يوم من الأيام، ونبث فيه الحياة التي يستحقها.

*ينتهي الفيلم بمشهد توضيب حقائبك استعداداً لسفرك إلى أوروبا، وهذا ما حدث عام 2015. لقد سافرتِ لدراسة إخراج الأفلام الوثائقية بعد حصولك على منحة إيراسموس، ثم عدتِ بعد عامين إلى دمشق، والآن أنتِ في بلجيكا، وقد مضى ما يقارب العام على إقامتك فيها. لقد أثَرتِ ترك مدينتكِ وأسرتك ِمرة أخرى مستبعدة أي احتمال للحياة فيها. ما الذي أكدته لك العودة بعد الدراسة، ما جعلك تتخذين قرار المغادرة نهائياً من أجل العمل والاستقرار في الخارج؟

جاء قرار مغادرتي متأخراً، مع العلم أن الفرص كانت متاحة لي منذ عام 2015، لكنني اتخذت القرار نهائياً عام 2021. كنتُ كلما غادرت دمشق وعدتُ إليها، شعرتُ أنني أعود بالزمن إلى الوراء، فالرحلة بينها وبين الخارج هي انتقال زماني وليس مكاني، وهذا سمعته من أشخاص التقيتهم. في الماضي القريب، كانت حجتي أن حضورنا في المكان لابد أن يترك أثره، لكن تبين لي عدم صحة ذلك، فالمكان ميت فعلياً، وسأموت معه بالتأكيد. ربما أكون سوداوية بما أقول، فثمة أناس يعيشون في سوريا، ويحققون بعض الإنجازات، وهذا أمر أحترمه، لكن كلامي هنا شخصي، وأحب أن أدافع عن تجربتي.

عندما عدتُ بعد انتهاء المنحة، كنتُ بحاجة إلى أن أفهم المكان أكثر، ومن الملاحظات التي لفتتني قرارات المغادرة غير الناضجة، وبهذا الشكل كانت تبدو هروباً، وسببت اغتراباً داخلياً. لابد أن نختبر لحظة الوداع، حتى إن لم نعبّر عنها بالبكاء، أو بتوديع الأحباء، لابد أن تأتي اللحظة التي نكون فيها مستعدين لتوديع المكان، مع أنني أعلم جيداً أن كثيراً من السوريين لم يكن لديهم هذه الفرصة، واضطروا للهروب والنجاة بحياتهم.

شخصياً، كنتُ محظوظة أنني عدتُ واتخذت قرار المغادرة مجدداً بهدوء. الخروج المفاجئ من سوريا، يسبب صدمة ثقافية، ليس بإمكان أي واحد منا استيعابها. في سفري الأول، كنتُ أنظر إلى المجتمعات الغربية بعين ناقدة، وأنظر إلى سلبياتها فقط، متتبعة الأخطاء لأبرر لنفسي أنني أنتمي إلى مجتمع أفضل، وهكذا كنت غير مستعدة لاستقبال الإيجابيات والميزات التي تمنحها البلدان المتطورة. من هذه الناحية، ساعدني قفص السُكر لأفهم مجتمعي أكثر والناس الذين أعيش معهم، وصرت أسأل نفسي إن كان بإمكاني أن أحرك الزمن الساكن وأمضي معه.

في العامين الأخيرين لي في دمشق، صرتُ مسكونة بالخوف، كان هذا الشعور قد ترك في داخلي رواسب عميقة، ولم أكن أعرف مما كنت أخاف، أُصبت بشلل عقلي وشعوري، لقد تراجعت شخصيتي، وصرتُ مرتبكة وخجولة أكثر من أي وقت مضى وغير قادرة على التعبير عن نفسي، فقدت إحساسي بالانتماء، فقررت أن أنقذ نفسي، وهكذا كانت المغادرة الثانية أمراً محتماً. دمشق مدينة مخيفة ومحدودة، هذه هي المشكلة.

ليفانت - ميرنا الرشيد

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!