الوضع المظلم
الإثنين ١١ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
نعمات
 ‎حاتم السروي

قرية هرية رَزَنة في الربيع تخطر بين القرى في ثوبها الزاهي وقَدِّهَا الرشيق، صبيِّةٌ عمرها ثلاثة آلاف عام، وأغصان الذرة في حقولها العامرة مثل تاجٍ على رأس أميرة فرعونية.. هرية رزنة وُلِدَت في عهد الملوك الأوائل، وجاء اسمها في شهادة الميلاد (هيرو نِفَر) أو بلد الأيام الجميلة.. تراها صبيةً تجري بين أغصان الصفصاف على ضفاف النيل، ثم تراها ترفل في ثوبٍ عربي يزيدها فتنةً، ليصبح جسدها مثاراً للغواية، إنها الغواية التي ألقت في شباكها فحول الفرسان القادمين إليها على ظهور الخيل من جزيرة العرب.

وما هو إلا قليلٌ من عمر الزمان حتى يقع في غرامها نفرٌ من الأتراك؛ فيتزوجونها لينجبوا منها رجالًا ونساءً ملامحهم شقراء وقلوبهم لا تعرف إلا لغة القرآن.

وبين بيوت القرية، وقرب ضريح "الشيخ محمد بحر" المتصوف ذائع الكرامات بين الأهالي، كان بيت عبد الجواد الذي نراه الآن يهيئ نفسه للخروج إلى حانوتِه.

ارتدى "عبده" -كما كانت تناديه زوجته- ثوبه الأخضر الفاتح في لون أوراق الليمون، ثم وضع على رأسه طاقيةً متينة البِنيَة مثل جسده يوم كان شاباً. وكما بقيت روحه الطيبة لا تعرف إلا العطاء، بقيت طاقيته لا تعرف الذوبان مع أنها صديقته منذ تسعة أعوام وسبعة أشهر وخمسةً وعشرين يوماً.. هكذا استطاعت ابنته الكبرى أن تحسب عمر الصداقة الوثيقة بين أبيها والطاقية.

نعمات ليست مجرد فتاة ريفية تجيد أعمال المنزل وتبرع في الطهي وتعرف جيدًا كيف تزيح عن أمها أعباء تربية البراعم الصغيرة التي وضعتها في قفص الاتهام.. جريمة الإنجاب في عصر تحديد النسل.. تهمة نالت البراءة منها بعد أن قدمت كل ما يثبت أنها لا تعرف تحديد النسل، وقُصارَى أمرها أنها سمعت عن حبوب تمنع الحَبَل، وتتمنى أن ترى شكلها بدافع الفضول، وأيضاً لأن "الحِمل ثقيل"!

حين حصلت نعمات على شهادة الثانوية العامة طار والداها من الفرح، فرحةٌ حقيقية لمست أوتار القلوب في هذا البيت الهادئ فأحالته إلى قاعةٍ للعرس تتردد أهازيج الفرحة بين أركانها.. الشربات يخرج من المطبخ إلى الشارع، وأهالي القرية يشربون سوياً نخب الانتصار.. انتصروا على الجهل.

أخيراً خرجت من بينهم فتاة بمئات الرجال، واليوم هو موعد وصول خطاب الترشيح الذي سيحدد أي الكليات الجامعية سوف تدخلها نعمات.

قرأ عبد الجواد خطاب الترشيح. أصابه الوجوم. نظر إلى عبوات الشاي وقوارير الزيت في بقالته. صاح مُغضَباً ومذهولاً كأنه يشكو إليهم:

كلية الصيدلة/ جامعة عين شمس؟ كيف ونحن في هرية قرب المدن إلينا "بندر لزقازيق"؟

كانت الزقازيق وما تزال عاصمةً لمحافظة الشرقية. تبعد عن القاهرة مسافة ساعة ونصف بالقطار، والشيخ الريفي يخاف على ابنته من السفر وحدها إلى القاهرة، لا سيما وأن سمعة المدينة الكبرى بين سكان الريف كانت تلقي في رَوْعِهم محنة الخوف والرجاء، كانوا يحلمون ساعةً من الليل بالسفر إليها؛ ففيها -كما يظنون- أعمالٌ كثيرة ومالٌ وفير، وفيها مشهد الحسين والمقام الزينبي، وفيها ابن عمهم صاحب الصوت الحنون "عبد الحليم حافظ" ابن "الشبانات" وفي ساعةٍ أخرى كانوا يرون القاهرة فيما يرى النائم بحراً غاضباً في جوٍ عاصف والأمواج الهادرة تبلع السابح العُريان وتعذبه بالغرق حيث لا أمل في النجاة، ويضيع المسكين في أعماق الحياة لا يدري به إلا صغار السمك.

على جثتي، والله لا أسمح ولا أسمع أي كلمة في هذا الموضوع، نعمات لن تذهب إلى صيدلة عين شمس، لن تدرس الأدوية، إنها فلاحة بنت فلاحين، سوف تبقى مصونة في بيت أبيها، وأمامها كلية الزراعة.

هكذا كان الشيخ يهدر في غضبه العنيف وصوته المزمجر مثل الرعد الذي صك الآذان في تلك الليلة الشتوية.. حينها كان الشتاء يطرق أبواب القرية بعد الخريف؛ أما اليوم فتراه يدخل متلكئاً يتثاءب في خمول قبيل نهاية العام وقد خنقته العوادم وأكسبته لوناً رمادياً ووجهاً تطل منه الكآبة.

نظرت نعمات في طيبة وخضوع واستسلام بنت ريفية لا يمكن أن تراجع أباها أو تواتيها الجرأة فتتكلم في محضره إذا خرج منه قراره النهائي، ثم أطرقت وقالت بصوتٍ خفيض: كما ترى يا أبي.

تنهد الشيخ ارتياحاً، وهدأت ثورة البركان الخارج من قلبه الطيب، وضم الفتاة إلى صدره في لحظةٍ أبويةٍ فارقة ازدحمت فيها مشاعر الحب والرأفة والحنان والخوف على جوهرته التي جاد بها القدر.. وبكى الشيخ الذي لم يعرف البكاء منذ وُلِد، ثم قال بصوتٍ متهدج:

أنتِ قطعةٌ مني، لم أقصد ولن يكون قصدي أبدًا أن يدخل النكد إليكِ، غير أنكِ يا نعمات لا تعرفين القاهرة، أنا الذي أعرفها، أنا الذي عملت فيها حتى تشققت يداي، هذه البقالة وفرت ثمنها بالدموع والدم، إنها مدينة لا ترحم؛ لقد عُدتُّ إلى هرية حتى لا يرى أبنائي هذا الغول، غول المدينة الكبيرة، كبيرة جدًا يا ابنتي، غول تهشم أنيابه عظام الرجال.

خضعت نعمات لحكم الوالد، أو فلنقل حكم القدر.. وهكذا مرت أربع سنوات، ثم عشر، وعشرون، ثلاثة عقود مروا جميعاً حتى وصل بها الصبر والعمل إلى شاطئ الأستاذية في قسم الدواجن بكلية الزراعة، اسمها الآن "البروفيسورة نعمات عبد الجواد" ولكن.

العمل في مدينة هي إلى الريف أقرب، أما السُّكنى فقد أمست بعد الزواج بين أحضان العاصمة، وابنها الوحيد لا يني يحكي قصتها إلى الرائح والغادي، قصة فتاة شرقية تمردت على الريف الذي يرسم للفتاة ملامح الهدوء والطيبة ليعُولُها أبٌ ثم زوج ثم ولد.. إنه السكون والصمت والرتابة، وكل يومٍ كالذي يليه حتى يلف الموت أجساد البشر بلونٍ أبيض كما تلف الأم وليدها، وكما تلبس العروس ثوب الزفاف. وحدها نعمات قررت أن تلبس ألواناً أخرى، قالت: إن الحياة ليست ميلاداً وعرساً وموتاً فقط، إنها الأبيض والأسود والبنفسجي.. الحياة ألوان.

في العاصمة نبرة الفخر يحملها صوت الولد وهو يحكي عن كفاح امرأة هي أمه، ونبرة الحزن على الماضي وارتعاشة القلق خوفاً على مستقبل أسرته.. ثم  يهدأ ويسكن.. ينظر إلى بعيد. يتملى – يترقب – يخاف – يبتسم - يتساءل، وبعد قليل يمد يده إلى السماء طالباً الرحمة حتى يستمر.

ليفانت - حاتم السروي

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!