الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
  • "المغنية الصلعاء".. كوميديا الاغتراب والخّواء الشاسع برؤية وليد قوتلي

المغنية الصلعاء

بعد انتهاء عرض "المغنية الصلعاء"، قال أحدهم إن هذا العمل هو وليد قوتلي، وليد الذي يعيش في مدينة دبي، ويتحايل على كلّ شيء بالمسرح، يلعب على الفراغ، يلعب على الزمن والعمر، وغياب أي دعم للمسرح، وكي لا يستسلم إلى برد العزلة، يحاول دائما أن يلوّن الحياة بالصداقات، بلقاء العابرين في المدن، والأهم أنه يمضي باحثاً عن وجوه جديدة هم غرباء على الأغلب، فيدخل لعبة الاكتشاف، اكتشاف من يجيد قراءة جسده واغترابه من خلال المسرح التعبيري، أو المضي نحو نصوص يلعب عليها دائما.

وهو ما يدفع للسؤال: ما جدوى الإطاحة بالنصوص المقدّسة وإزاحتها من أمكنتها وأزمنتها، أو تحديثها؟ وهل الإطاحة بالنصوص هجرة إلى المجهول، أم جوقة تردد أصواتها بما ينسجم مع الراهن؟

أسوق هذا التساؤل بعد حضورنا لعرض المغنية الصلعاء، والذي قدّمته فرقة المختبر المسرحي، بقيادة المخرج وليد قوتلي على مسرح مول الإمارات في دبي، وعلى مدى يومين متتاليين.

النص المسرحي:

"المغنية الصلعاء" للكاتب المسرحي الفرنسي الروماني أوجين يونسكو، نص أدبي ثقافي له مدلولاته ومرموزياته، ويجسّد حالة العبث والاغتراب بعد الحرب العالمية الثانية، ومعروف أن المخرج وليد قوتلي كان وما يزال مولعاً بقلب النصوص ومشاكستها، وقد اعتاد الشغب واللعب على الثابت والمستتب ليجعلها مسايرة للتغيرات الزمانية والمكانية.

 

وقد كتب على البروشور الذي صممته الممثلة إيمان العزة "ينتمي العمل إلى الكوميديا الاجتماعية من مسرح اللامعقول، والذي يضيء على العزلة و الاغتراب، وعدم قدرة الناس على فهم هذا، وانسلاخهم عن بيئتهم الاجتماعية والثقافية وعجزهم عن بناء علاقات إنسانية طبيعية، وفقدان التواصل فيما بينهم، من هنا نقرأ معنى المنفى، والاغتراب، من خلال أسرتين فقدتا خطوط التواصل بين أفرادها"، و قد شكّلت لوحة الفنان صفوان داحول على البروشور إضافة جمالية ورمزية، للعمل نفسه.

مشاهد ورؤى

ما يجذب القارئ أو المشاهد لمسرحية يونسكو الأولى "المغنية الصلعاء"، هو الأحاديث الدائرة بين الزوجين، حيث تشير إلى اغترابهما عن بعضهما، وعن كلّ شيء، هذا المشهد شكّل افتتاحية عرض وليد قوتلي مع خصوصية التغيير في ابتكار نص آخر موازٍ، زوجان يلتقيان في الحافلة الذاهبة من جونيه إلى بيروت، لا تستطيع الزوجة التعرف على زوجها، رغم الإشارات المتعددة إلى مكان سكنه وعنوان منزله بطريقة تؤكد أنهما غرباء تماماً ولا يشعران بوجود بعضهما.

المشهد الأول والأخير:

امرأة ورجل التقيا صدفة في حافلة ودار بينهما الحوار التالي:

"أنا أسكن في شارع الحمراء.. وأنا أسكن في شارع الحمراء. أنا أقطن في البناء رقم 7.. وأنا أقطن في البناء رقم 7 يا سيدتي".

إذا لعلني لمحتك هناك.

هذا جائز جداً.

شقتي في الطابق السابع الشقة رقم 7 يوجد في غرفة نومي.. سرير عريض مغطى بلحاف اخضر، وغرفتي تقع في نهاية الممر، وأنا إذاً يا سيدي العزيز نسكن في نفس البناء وفي نفس الشقة.

هذا المشهد الافتتاحي، يتكرر في نهاية العمل تأكيداً على استمرار الشرخ في العلاقات، فالزوجة في المشهد الأول لا تستطيع التعرف على زوجها، وفي المشهد الأخير لا يستطيع الزوج أن يتعرف على زوجته، إذ تعد "المغنية الصلعاء"، امتدادا ساخراً لحواراتنا وأحاديثنا المتبادلة، ولما يسمى بالوضع الدرامي في حياتنا، ولعجزنا عن الصمت.

فصام إنساني

توزعت المسرحية على عدد من المشاهد وجميعها تعبر عن ذروة الفصام الإنساني، مشهد الاستغراق بالموبايل، مشهد  فتاة الإعلانات في المدن الاستهلاكية، الإعلانات التي تشوش الحياة نفسها، القراءة، متابعة الصور والفيديوهات، حمل العمل اسم "المغنية الصلعاء"، ووظف مشهدا منه، وكل ما عداه هو نص القوتلي، الذي منحه تيمة جديدة معاصرة تتعلق بالبيئة وخطر البلاستيك، الغربة عن الحب، لا سيما مشهد الفالنتاين وتبادل الورود الاصطناعية، والذي يعكس الاغتراب واللاجدوى من أي شيء، الحرب، التكنولوجيا وجلوسنا متوحدين مع الموبايل، فتاة الإعلانات في المدن الاستهلاكية، وكأنه أراد القول الحرب صناعة، الحب صناعة، اللامعقول  يغطي وجه العالم.

اقرأ المزيد: هولندا وكندا تقاضيان النظام السوري أمام محكمة العدل الدولية

اتكأ النص على إرث ثقافي وشعري، وحمل مرموزات فلسفية وصوفية، أقوال فلاسفة، ونصوص من فرائد الأدب، وثمة إشارات للبحر والهجرة واللجوء، من سوريا من أفريقيا، فالبحر وحش، والقطب الشمالي يسيل دموعا، كل هذا إشارة إلى التلوث وتغيرات المناخ التي تنعكس على الكوكب نفسه.

ورغم رمزية العمل استطاع الممثلون تجسيد النص ومنحه بعداً جديداً آخر، من خلال تلاوين الصوت، وحركة الجسد، إذا مرت المشاهد بعفوية وبتجسيد عالي للنص من خلال لغة الحوار، والتقشف في الموسيقى، وتخلل العرض نصوص شعرية للقوتلي تصور غباء الجنرالات، وعدائهم للجمال والحب والطبيعة.

حمدة: لماذا أراد الجنرال أن يصوروه وهو يدخن الغليون و يبتسم؟

لأنه أحرق الغابة.

زكية: لماذا يبست شجرة الياسمين؟

لأن الأشرار قطعوا عنها الماء.

لماذا قطع الأشرار الماء عن شجرة الياسمين؟

لأنهم لا يحبون رائحة الياسمين.

لأنها تصدع أدمغتهم.

زكي يخطف المكبر: من أحرق الغابة؟

الجنرال أحرق الغابة.

لماذا أحرق الجنرال الغابة؟

أحرق الجنرال الغابة ليشعل غليونه.

لماذا أراد الجنرال أن يشعل غليونه؟

أراد الجنرال أن يشعل غليونه لكي يصوروه وهو يدخن الغليون ويبتسم.

وهكذا يمضي النص من الحكاية إلى الشعر، إلى العبارة الفكرة.

يقرأ أحد الممثلين على هاتفه: التجاهل ضروري عندما تحيط بك التفاهات.

أنا أعرف إذاً أنا موجود.

زكية: نحتفل بالفالنتاين، لكن أين الحب؟

وهو ما يؤكد التجديد الواعي والذي يصب بمعنى الحداثة، ووعي الظروف المحيطة، والواقع والتاريخ والمرحلة، فكأنما كل ما كتبه الروماني يونسكو، وبيكت الأيرلندي وآدموف الروسي، في مسرح اللامعقول، صار معقولاً جداً بل واقعاً نعيشه كل يوم بكثير من التكرار والملل.

العالم يثرثر

يبدو أن ثرثرة الغبار هي التي بتنا محكومين فيها، والتي تعكس ذروة الفصام الإنساني، في عالم لا معقول، محكوم بالحروب، وثورات مسروقة، مسرح يغيب فيه البطل، ويصبح العبث سيد الموقف، وربما الألم في صورته الأقسى.

زوجان يفقدان الحب والشعور ببعضهما، ويعجزان عن التواصل. حالة تترجم صعوبة التواصل، حتى مع الذات نفسها، فغياب الحب يعني بالدرجة الأولى غياب الأنا، الذات، أو تحولها إلى حالة مرضية، بدءاً من عنوان العمل الذي يحكي عن مغنية صلعاء رغم أنها ما تزال تصفف شعرها.

"ما هي أخبار المغنية الصلعاء؟ ما تزال تصفف شعرها بالطريقة نفسها؟"، بهذه الكلمات التي سطّرها يوجين يونسكو، نسأل: هل نعيش ما بعد العبث، أم نعيد يونسكو بصوتنا؟

مغنية العبث

ما تزال المغنية الصلعاء تمثل على مسارح العالم، منذ كان أوّل عرض على الخشبة عام 1950، على يد المخرج نيكولا باتاي، على أحد مسارح باريس، وإلى الآن، وهو من المسرحيين الذين ما زالت نصوصهم تُعرض، دون انقطاعٍ، على مسارح العالم وبكلّ اللغات، لهذا شهد العالم عشرات آلاف للمغنية الصلعاء.

ويعتبر يونسكو من الكتاب المسرحيين الذين كلما حاولنا التنقيب عن أسرار نصوصهم نجد أمامنا أسراراً أخرى وقراءاتٍ أخرى لكلّ نصّ. والجميل في نصوصه أنه كلما جاء مخرجٌ ليقدّم أحدها على الخشبة نجده قد قدّم النصّ بطريقةٍ مختلفةٍ عمّن سواه من مخرجين، كما نراه مع قوتلي اليوم.

ليفانت ­- فاتن حمودي

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!