-
آن للسوري أن يحيا
في معمعة التقدّم التكنولوجي وعالم الذكاء الصناعي وفي ظلّ أزمات اقتصاديّة خانقة تقضّ مضجع الكثيرين من البشر حول العالم، مضافاً إليها شبح الرايات السوداء التي ألقت بعنفها ودمويتها باعثة الرعب والهلع في العديد من الدول في السنوات الأخيرة، وصولاً إلى الحدث الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وأعني فيروس كورونا المستجدّ وماله من آثار يبدو أنها ستلقي بظلالها وعلى كلّ المستويات في العالم أجمع.
أقول في ظلّ كل تلك المعمعة يبدو أنّ موجة جديدة من العنصرية بدأت تطلّ برأسها، مفصحة عن خلل قديم جديد يطال المختلف عن “العالم المتحضّر”، ضاربة بعرض الحائط كل النضالات التي خاضتها بلدان العالم للتخلّص من هذه الآفة التي أزهقت كثيراً من الأرواح وكانت وصمة عارٍ في جبين الإنسانيّة.
فلم يكُ من باب الصدفة أن نسمع، وعلى لسان طبيب في بلد متحضّر كفرنسا، رأياً يقول بإجراء تجارب على الأفارقة لمصل مقترح لمرض كورونا المستجد، ذلك أنّ العنصريّة ما تزال حاضرة في أذهان الكثيرين حول العالم، العالم الذي يبدو كلما ازداد تقدّماً تقنيّاً، كلما أفصح عن جوانب لا أخلاقيّة ثاوية في نفوس صانعيه ومستهلكيه.
وقبلها وفي مشهد تكرر أكثر من مرّة في ملاعب كرة القدم في أوروبا، نجد تلك الصورة القاتمة والتي أقلّ ما يقال فيها فضيحة لأخلاق “المتحضّرين”، تلك التي تحدث بحقّ أولئك الموهوبين الفقراء، حيث يسعى كشافو كبريات أندية كرة القدم لاستثمارهم والاستثمار فيهم، فما زالت دموع اللاعب الإيطالي ماريو بالوتيلي ذو البشرة السمراء داخل المستطيل الأخضر بعد هتافات عنصرية ضدّه شاهدة على ذلك التصاعد الملفت للنفس العنصري في مجتمعات يفترض أنّها أنجزت استحقاق المواطنة واستبعدت تلك الصفحة السوداء من تاريخها الفضائحي من التمييز. للسوري
يبدو أنّ الأزمة الحاليّة التي يعيشها العالم عبر فيروس كورونا الجديد غير المرئي بالعين المجرّدة، يشكّل فرصة مواتية لهذا الخطاب العنصري ليطلّ برأسه لكن ليس بشكل مجهري بل بصورة فاقعة وعبر وسائل الإعلام من خلال كلام أطباء فرنسيين حول إجراء اختبارات مصل لهذا الوباء لا على الفئران والحيوانات بل على البشر وأين؟ في أفريقيا.
من الواضح أنّ السؤال القديم حول التقدّم سيعود إلى الواجهة من جديد، وأقصد ذلك التقدّم المادي والتقني والمدني والحضاري الذي يجب أن يترافق مع تقدّم أخلاقي، يأخذ بعين الاعتبار القيم الإنسانيّة التي تكرّس مركزيّة الإنسان كقيمة عليا غير قابلة للإهانة والمسّ بجوهرها الحرّ.
ولعلّ واحدة من أكبر كوارث العصر الحديث وأشدّها مأساوية هي مسألة اللاجئين السوريين، وما طالهم عبر سنوات الحرب السورية سواء في الداخل السوري أو في بلدان اللجوء الأمر الذي وفي ظلّ عدم ظهور هذا الفيروس المستجد كان يشكّل عبئاً، فكيف الآن وبعد حالة الهلع العالمية، وخاصة في بلدان اللجوء التي يشكّل فيها ملفّهم كرة تتقاذفها رياح السياسة وربما العنصريّة الفاقعة.
ما زلت أتذكّر جيداً، ويتذكر معي الكثيرون، ذلك المشهد ذو الدلالة لرجل تلك المراسلة المجريّة التي وضعتها معرقلةً عبور لاجئ سوري مسقطة إياه أرضاً، في تعبير صارخ عن انعدام الحسّ الأخلاقي تجاه اللاجئين، من قبل العديد من الأشخاص حول العالم. وبالمقابل نذكر في الجهة المقابلة ذلك الاحتفاء الذي حظي به أسامة عبد المحسن في مدريد حيث أطلق شرفياً كرة المنتصف في إحدى مباريات نادي العاصمة الإسبانية ليصبح بعدها مدرباً لقواعد نادي خيتافي الإسباني. للسوري
ربما تعكس هذه الحادثة وجهتي النظر المتناقضتين، وهي في الحقيقة كذلك إذا ما تمّ استعراض الدول التي استقبلت اللاجئين السوريين، وتلك التي رفضت رفضاً قاطعاً دخول هؤلاء الى أراضيها على شكل موجات كبيرة، واكتفت بعدد محدود وبوضعيات مختلفة، والحقيقة الأقسى أنّ هذا الانقسام كان عربيّاً أيضاً، فعند مقارنة وضعيّة اللاجئين السوريين بين الأردن ولبنان، البلدان اللذان بالأصل يرزحان تحت مشاكل كبيرة، لوجدنا عل مستوى القبول الشعبي، الحالة في الأردن أفضل بكثير من لبنان، وطبعاً سأسارع للقول وليس للتبرير بوجود حالة الرفض التي تأصّلت خلال الوجود العسكري السوري في لبنان، مما راكم صورة سيئة لا عن العسكري السوري أو الضابط المرتكب المسؤول عنه فحسب، بل انسحبت هذه الصورة عند فئة ليست قليلة من اللبنانيين لتطال السوري.
وخلال سنوات الحرب السوريّة، أضاف وجود اللاجئين السوريين ملفاً انقساميّاً حامياً وقابلاً للاستغلال من قبل أطراف عدّة في الطبقة السياسية اللبنانية، وهنا يحضر الكلام الحادّ الذي تفوّه به وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل في أكثر من مناسبة مهاجماً اللاجئين، الأمر الذي لم يفعله أيّ مسؤول أردني بل على العكس من ذلك، كان كلام المسؤولين الأردنيين يحمل شحنة عاطفية بالغة تجاه قضيّة اللجوء، وطبعاً لن أغفل موقف كثير من المثقفين والإعلاميين والناشطين اللبنانيين وحتى أهالي كثير من القرى والبلدات اللبنانية المشرّف، ووقوفهم مع اللاجئين من منطلق أخلاقي ودون استثمارات لاحقة. للسوري
واليوم وفي ظلّ هذه الجائحة، ربما يبرز تساؤل من قبيل، ماذا لو انتشر هذا الفيروس في مناطق وبلدان اللجوء، وأخصّ بالذكر الدول العربيّة، كالأردن ولبنان، وهما الدولتان الفقيرتان واللتان تعتمدان بشكل أساسي على المساعدات الدولية لتحمل أكلاف اللاجئين، ثم أيّ خطبة عصماء سيلقيها السيد جبران باسيل اذا ما حدث هذا السيناريو السيء والذي نتمنّى ألا يقع، وفي المقابل، ألم يحن الوقت الذي سيشعر معه السوري أينما وجد، بحقّه في مخدة يسند رأسه عليها بكرامة في قريته ومدينته ووطنه الحر، لا أن يلجأ الى بلدان أضحى مواطنوها أشبه باللاجئين تارة تحت وطأة طبقة سياسية مهترئة، وتارة أخرى، تحت تهديد سلاح الميليشيات التي لا تعير انتباهاً لمنطق الدولة، كما هي الحال في لبنان؟.
إنّ السوري الذي مزّقته الحرب أشلاءً، وأصبح ريشة في مهب رياح الأقاليم تعب، ويحقّ له بعد هذه المأساة أن يحيا، أن يحيا فقط.
ليفانت – أسامة هنيدي
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!