-
أردوغان قائد الفتح الإسلامي في أوروبا
يعلم أردوغان جيداً أنه لن يستطيع جعل ليبيا نسخة جديدة منسوريا، التي مارس فيها كل الفظائع من قتل وتهجير وسرقة وتخريب، بتواطؤ واضح من المجتمع الدولي، وذلك لاعتبارات جيوسياسية ومصالح اقتصادية مصيرية تحكم توازنات القوى الإقليمية في محيط ليبيا، ويعلم أردوغان أيضاً أن الشعب التركي، الذي وصلت معاناته الاقتصادية لحدود غير مسبوقة بسبب فشل إدارته، لم يعد يشتري الأوهام التي طالما باعها له أردوغان عن إعادة استعمار دول الشرق الأوسط ونهب خيراتها تحت راية الخلافة العثمانية، لهذا لجأ أردوغان مؤخراً إلى ارتداء عباءة الفاتح الإسلامي في أوروبا، فأمر بتحويل كاتدرائية تاريخية – آيا صوفيا – إلى مسجد، ثم أخذ يهلل ويكبر على مواقع التواصل الاجتماعي، ومن وراءه أعضاء حكومته وحزبه الإخواني، في محاولة ساذجة لتصوير اعتداءه على مكان عبادة مسيحي وكأنه نصر كبير للإسلام والمسلمين.
وقد استغرب البعض قرار أردوغان، وتساءل عن الفائدة التي قد تعود عليه من تحويل متحف مسيحي إلى مسجد، ولماذا الآن، والإجابة ببساطة هي تحصين نفسه، من خلال إشعال مشاعر المسلمين حول العالم بلعب دور الفاتح الإسلامي في أوروبا، متحدياً كل مظاهر الحضارة الغربية في القارة العجوز، وعلى رأسها تطبيق العلمانية كمنهج حياة تدعمه القوانين المحلية والاتفاقيات الإقليمية، فبالرغم من كون العلمانية مذهب إنساني واضح تماماً في فصله بين شئون الدين وشئون الدولة، بما يكفل احترام حقوق وحريات الأفراد، إلا أن الكثير من شيوخ وأئمة المسلمين، في العالم، بما فيهم الأئمة الوسطيين، يحرّمون العلمانية ويرون في تطبيقها ذنب يعادل في حرمته الكفر بالله، وهؤلاء وأتباعهم سيتعاطفون بالتأكيد مع التحديات الجوفاء التي يفتعلها أردوغان ضد مظاهر الحضارة الغربية وغير المسلمين.
ومن ناحية أخرى، فإن أردوغان، بتقديم نفسه كقائد للفتح الإسلامي في أوروبا، فإنه بذلك يجد لنفسه منفذاً لقلوب وعقول الجاليات المسلمة في داخل الدول الأوروبية، ومن ثم استغلالهم للضغط على صناع القرار في دولهم من أجل خدمة مواقفه وأجندته، وقد كانت فرنسا، وهي دولة عضو مع تركيا في حلف الناتو، واحدة من أكثر الدول تحركاً في مواجهة محاولات الغزو الفكري التي يحاول أردوغان، والإخوان المسلمين بشكل عام، ممارستها على الجاليات المسلمة في دول أوروبا.
حيث تعد فرنسا هي الدولة الأوروبية الأولى من حيث عدد المسلمين بها، والذي يتجاوز ستة مليون فرد، والإسلام في فرنسا يحتل المرتبة الثانية بعد الكاثوليكية من حيث نسبة المواطنين الذين يعتنقونه، وأذكر هنا مقولة سمعت بعض الفرنسيون يتندرون بها وهي أن أكثر أسم ذكر منتشر في فرنسا بعد “فرانسوا” هو “محمد”، وسبب ذلك أن هناك أعداد كبيرة هاجرت من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى فرنسا منذ أواسط القرن الماضي، وقد ساعدهم على سهولة الانخراط في المجتمع الفرنسي كون أغلبهم وافدين من دول غرب شمال أفريقيا، مثل المغرب والجزائر وتونس، أي أنهم متشبعين بالفعل بالحضارة الفرانكفونية التي تعتمد الثقافة العلمانية وفصل الدين عن الدولة منهجاً لها. لكن الهجمات الإرهابية المتكررة التي طالت فرنسا في السنوات الأخيرة، تطلبت إعادة تقييم سلوك الجاليات الإسلامية ومحاولة اكتشاف أسباب انتشار التطرف العقائدي فيما بينهم، وبالفعل كشفت التحقيقات لاحقاً أن لجماعة الإخوان المسلمين وتركيا دور رئيسي في التطرف الإسلامي الذي أصبحت تعاني منه فرنسا وأغلب الدول الأوروبية.
فقد أعلن الرئيس الفرنسي ماكرون، في شهر فبراير، عن حملة تقودها حكومته لمحاربة ما أطلق عليه اصطلاح "الانفصالية الإسلامية" في فرنسا، نظراً لتناقضها مع قيم الحرية والمساواة التي تؤمن بها فرنسا، وتشجع المواطنين المسلمين في الضواحي البعيدة على التقوقع على أنفسهم واعتماد قوانينهم الخاصة، حتى وإن كانت مخالفة للقوانين المعمول بها في الدولة، بحجة أنها دولة علمانية، وبالتالي تصبح هذه المجموعات الدينية بمثابة مصانع لإنتاج المتطرفين ونشر التطرف العقائدي، وفي نفس الخطاب قال ماكرون أنه سيسعى بالتدريج لوضع حدود لكبح النفوذ الأجنبي على المواطنين المسلمين داخل بلاده، في إشارة صريحة إلى الأئمة والمشايخ الذين يتم إرسالهم بواسطة تركيا، ودول شمال أفريقيا، إلى فرنسا للتدريس والوعظ في مدارس ومساجد المسلمين، وأغلبهم محملين بأجندات سياسية.
وبالفعل التقط الحزب الحاكم في فرنسا، حزب "الجمهورية إلى الأمام"، طرف الخيط من ماكرون وكثف عمله في البرلمان لإيجاد حلول مناسبة لأزمة الانفصالية الإسلامية، وفي ١٢ يوليو، قبل يومين فقط من احتفالات العيد القومي وعيد الاتحاد في فرنسا، أعلن مجلس الشيوخ عن نتائج التحقيق الذي أجرته لجنة مختصة، بمبادرة من حزب الجمهوريين، حول تنامي التطرف الإسلامي في فرنسا، وأوصت اللجنة بضرورة "أخذ الحذر من وجود خمسين ألف عضو من جماعة الإخوان المسلمين وأربعين ألف عضو من السلفيين" في داخل فرنسا، يروجون ويعززون الخطاب الانفصالي الإسلامي والتحريض ضد المسؤولين ووسائل الإعلام. وكان قد سبق تحقيق مجلس الشيوخ هذا، تقرير عن التطرف الإسلامي في فرنسا، نشره معهد مونتاني، وهو مركز أبحاث ليبرالي فرنسي، بتكليف من مؤسسة الرئاسة، وجد أن هناك محاولات من بعض الدول، مثل تركيا، لصناعة الإسلاميين على الأراضي الفرنسية والأوروبية.
إن ما تعانيه فرنسا من انتشار التطرف الإسلامي على أراضيه هو أمر متكرر في أغلب الدول الأوروبية اليوم، وإن اختلفت درجة شدته من دولة إلى أخرى، والفاعل وراء كل هذا هو أردوغان في تركيا وجماعته جماعة الإخوان المسلمين. فهل آن الأوان لأن تتحرك أوروبا بشكل حاسم في مواجهة الفاتح الإسلامي الجديد، قبل أن ينخر عظامها من الداخل عبر تصدير أفكاره الإخوانية المتطرفة إلى مواطنيها، ونشر التطرف والإرهاب في ربوعها؟
داليا زيادة
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!