-
أوكسجينُ الحربِ السوريّة
تُعدّ المعابرُ الحدوديّة المتنفّس المتبقّي للنظام السوري، بحكمِ كونها بوابة الوصول إلى العالم الخارجي واكتساب الشرعية والقانونية الدولية، ولها بالطبع أهمية استراتيجية وسياسية واقتصادية، وهذه المعابر لا يمكن فتحها بين بلدين إلا بمناخٍ سياسيّ يحكمه الانسجام، ولذلك فإنّ إغلاقَ المعابر أو فتحها دليلٌ على عمق التعاون والانسجام أو فقدانه بين البلدان المتجاورة، أو بين مناطق المعارضة ومناطق النظام السوري كما هو الواقع في الحالة السورية الراهنة.
ومع انحسار مظاهر الاقتتال العسكري، اعتبر بعض السوريين إعادةَ فتح المعبر خطوة نحو التعافي الاقتصادي، فيما رأى آخرون أنّه رصيدٌ جديد من المال يُضاف لحسابات تجّار الحرب، الذين أثقلوا كاهل المواطن السوري بالكوارث الاقتصادية المتلاحقة، لذا يستميت النظامُ السوري اليوم، ومن ورائه روسيا، لفتح منافذ الأوكسجين مع مناطق إدلب وريف حلب، وذلك في محاولةٍ حثيثةٍ لإنعاش اقتصاده الميت على خلفيةِ العقوبات الدولية، وفقدانِ أيّ موارد تخرجه من أزماته المتلاحقة.
وكانت روسيا قد أعلنتْ مؤخراً عن توصلها لاتفاقٍ مع تركيا، يتعلّق بفتحِ المعابر بين مناطق النظام والشمال السوري الخاضع لسيطرة تركيا والفصائل المتقاتلة، تزامنت مع تصعيدٍ روسي تمثّلَ بقصفٍ غير مسبوق على مناطق حدودية حيوية في ريف إدلب، خاصة معبر باب الهوى المخصص، وبقرارٍ أممي، لدخول المساعدات الإنسانية إلى مناطق الشمال، كأنّ الروسَ يعيشون تناقضاً أخلاقياً وسياسياً، يقصفون المنطقة، مساء، ويطالبون بمعابر إنسانية في الصباح، وهي في الحقيقة لعبة ضغطٍ سياسيةٍ تمارسها روسيا من البوابة الإنسانية، وكان نائبُ مدير مركز حميميم لمصالحة الأطراف المتناحرة في سوريا، والتابع لوزارة الدفاع الروسية، اللواء البحري ألكسندر كاربوف، قد أعلن في بيانٍ مؤخراً، أنه وجّه، وعلى خلفيةِ صعوبةِ الأوضاع الإنسانية في الأراضي الخاضعة لسيطرة القوات التركية داخل سوريا، مقترحاً إلى الجانب التركي حول استئناف عملِ ممرَّي سراقب وميزناز في منطقة إدلب لخفض التصعيد، وممرّ أبو زيدين في مدينة حلب، وأوضح كاربوف أنّ الاقتراح يشمل إطلاقَ عمليتَي إيصالِ الشاحنات الإنسانية وخروجِ النازحين عبر الممرات، فيما جاءت هذه التطورات بعد ساعاتٍ من استدعاء تركيا السفيرَ الروسي للتعبير عن اعتراضها ومخاوفها بشأن تصاعدِ العنف، في شمال غربي سوريا، بعدما قصفت طائراتٌ روسية بلداتٍ قرب الحدود التركية ومستشفى في المنطقة، وبدأت الأزمة عندما اتهمت تركيا دفاعاتِ النظام السوري بضرب صهاريج نفط في مناطق سيطرتها شمال سوريا، ما أشعل حرائقَ طالت مساحاتٍ واسعة من تلك المنطقة، إلى أنْ استدعتِ الروسَ مطالبة بوقف الهجمات.
وكعادته سارع إعلامُ النظام السوري إلى إعلانِ فتح معبر (ترنبة–سراقب) شرق إدلب، ومعبر أبو الزندين شرق حلب، بحجةِ إفساح المجال أمام المدنيين الراغبين بالخروج من مناطق سيطرة المجموعات المسلحة إلى مناطق الدولة السورية، مكرراً أسطوانته القديمة باتّهام المجموعات الإرهابية بمنع المدنيين من الخروج من تلك المعابر، وهي المفتوحة بالأصل من جانب واحد، في الوقت الذي تتواصل فيه الدعوات في عموم الشمال السوري لخروجِ مظاهراتٍ واسعة بهدفِ رفض الاقتراح الروسي، إلى جانب بياناتٍ عسكرية ومدنية تؤكد خطورةَ فتح تلك المعابر مع نظام الأسد، الذي يعاني انهياراً اقتصادياً ملحوظاً، الأمر الذي لم تعلّق عليه أنقرة حتى اللحظة.
ولفتحِ المنافذ تأثيرٌ فعالٌ على استمراريةِ النظام السوري، فهي دون شكّ رئته الحيوية، وفي الواقع تستورد مناطقُ المعارضة بضائع من مناطق النظام بنسبة 5% مقابل 95% من تركيا، في حين تصدّر مناطق الشمال السوري 50% من المنتجات الفائضة عن حاجتها إلى مناطق الداخل السوري بنسبة 90%، وإلى تركيا بنسبة 10% فقط، في حين ستشهد مناطقُ النظام السوري عملياتِ تهريب مكثّفة للعملة الصعبة، وسيحاول النظامُ بشتّى الوسائل الحصولَ على المشتقات النفطية التي تعتبر كبرى أزماته، بعد امتناع قوات سوريا الديموقراطية عن بيعه النفط في مناطق شرق الفرات بضغطٍ أميركي، أيضاً المساعدات الأممية تشكّلُ عاملَ استقرارٍ اقتصادي بالغ الأهمية في المناطق الخاضعة لسيطرة الأسد، لجهة توفر السلع الأساسية، واستقرار أسعار المواد الغذائية التي تُنتج داخل البلاد، ما يساهم في تقليل الواردات، والذي يؤدي بالضرورة إلى انخفاض الحاجة إلى العملة الصعبة، وبالتالي تحسّن الاقتصاد، ولو بشكل بسيط، وعلى صعيد آخر فهناك بعدٌ سياسي لفتح المعابر، حيث يستمدّ النظامُ السوري شرعيّته الساقطة أصلاً، في حال أقنع للمجتمع الدولي بمسرحيةِ (تصالحه) مع السوريين المعارضين في مناطق الشمال السوري، تمهيداً للانتخابات الرئاسية المقبلة، وليس من الغريب أن يضع صناديق الاقتراع على تلك المعابر نفسها.
وواقعُ إنشاء النظام السوري النقاط الجمركية، بين مناطق سيطرته وتلك التي تسيطر عليها المعارضة، هو إقرار صريح بأنّ الأخيرة لم تعُد تابعة له، واعتراف ضمني بعمليات التقسيم الجغرافي، التي يسعى إليها بالتعاون مع بعض الأطراف الدولية الحليفة، الهدف منها هو البحث عن مصادر دخل لتمويل عملياته العسكرية، كما أنها تدخل في إطار وسائل الابتزاز السياسي التي يعمل النظام عليها، لذا بدأ في الآونةِ الأخيرة حرباً من نوع آخر، وهي حرب المعابر وشرعنة ذاتها سياسياً مع دول الجوار أولاً والعالم ثانياً، والحقيقة أنّه مذ خرجت المعابرُ الحدودية عن سيطرةِ القوات الحكومية تعرّض السوريون لحصارٍ اقتصادي خانق، كما كانت دلالةً مباشرة على سوء العلاقات السياسية مع الجوار من جهة، والانفلاتِ الأمني من جهة أخرى، ما أدى إلى فوضى عارمة، فكلما سيطر فصيلٌ من الفصائل على أحد المعابر فرض قوانينه وضرائبه، وتحكّم بإغلاقها وفتحها حسب سياسته تارة، وحسب مزاجيته تارة أخرى، مما حدا بالدول المجاورة إلى إغلاق معابرها، ونتج عن ذلك نكسةٌ اقتصادية وسياسية واجتماعية، إذ لم يعد هناك ما يضبط عملية الاستيراد والتصدير وحاجة السوق، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار، وقلّة الوارد من النقد الأجنبي بسبب فقدانِ خزينة الدولة هذه المعابر، وازديادِ معدلات التضخم وتداول العملات الأجنبية دون ضوابط، واضطرابِ سياسة فتح المعابر وإغلاقها حسب سياسة الفصيل المسيطر وتوافق سياسته مع الدولة الجارة أو اختلافها.
والمعابرُ الحدودية تعتبر عاملاً بارزاً في ميزان الحرب السورية، من ناحية تأمينِ السلاح، ونزوح السوريين إلى دول الجوار، وإدخالِ المساعدات الإنسانية إلى الداخل السوري، والمعابر لن تبقى قيمةً اقتصادية فحسب بل ستكون بوابةً سياسية، ومعبراً للتفاهمات والعلاقات بين سوريا وجيرانها، وهذا ما تبحث عنه الحكومةُ السورية قبيل إعلانها الانتهاء من الحرب على من تصفهم المجموعات الإرهابية. والجدير ذكره أنّه من المعابر التي تربط سوريا مع تركيا معبر كسب في محافظة اللاذقية، معبر باب الهوى في محافظة إدلب، معبر جرابلس ومعبر باب السلامة في منطقة إعزاز في محافظة حلب، معبر تل أبيض شمال محافظة الرقة، معبر رأس العين ومعبر نصيبين ومعبر عين ديوار في محافظة الحسكة، في حين تربط سوريا مع لبنان خمسة معابر وهي: جديدة يابوس، الدبوسية، جوسية، تلكلخ والعريضة في محافظة طرطوس، أما المعابر التي تربطها مع العراق فهي: معبر اليعربية في محافظة الحسكة، ومعبر البوكمال في محافظة دير الزور، ومعبر التنف جنوب دير الزور، كما لدى سوريا مع الأردن معبران هما: معبر نصيب الحدودي ومعبر الجمرك القديم في درعا.
ليفانت - عبير نصر
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!