الوضع المظلم
الجمعة ٢٠ / سبتمبر / ٢٠٢٤
Logo
إعادة ترتيب الأبد
ثائر الزعزوع

ثائر الزعزوع - صحفي سوري


قبيل توليه السلطة بعامين على الأقل، سرت شائعات كثيرة وحكايات أقرب إلى الخيال، كان الغرض منها أسطرة الشاب، عديم الخبرة السياسية والاقتصادية، وتحويله إلى رمز لمحاربة الفساد والفاسدين، ورغم أنه لم يكن حينها يشغل أي منصب سياسي، إلا أن هذا لم يمنع تلك الحكايات من القول إنه استطاع محاسبة الوزير الفلاني أو إقالة مدير عام من عمله، وانتشرت مفردات وعبارات تداولها السوريون فيما بينهم، كان أبرزها وأكثرها إثارة للسخرية ربما “الشفافية”. لماذا السخرية؟ لأن صاحب مطعم في إحدى المناطق قرر أن يتملق السلطة فأطلق على مطعمه تسمية مطعم “الشفافية”.


ولكن، و ما أن ورث، بشار الأمل، كما كان يطلق عليه وقتها، الحكمَ عن أبيه عام ٢٠٠٠ حتى بدأت نيران حملته على الفساد تخفت شيئاً فشيئاً، و خاصة مع ظهور طبقة جديدة من الفاسدين المقرّبين منه بشكل خاص جداً، و بدلاً عن ذلك فقد قرر محاربة أولئك الذين قد يحاربون الفساد، فزجّ بالنائب الدمشقي المعروف رياض سيف في السجن لأنه امتلك الجرأة على فتح ملف الهاتف الخليوي، و أصدر قراراً بإغلاق صحيفة الدومري، التي كان ناشرها رسام الكاريكاتير المعروف علي فرزات، قد نال في الأصل استثناء منه شخصياً بإصدارها. وبدأت دولة الفساد الجديدة تتوسع بإشراف شخصي من رأس النظام، وقد فضحت ما تعرف بـ “أوراق بنما” و قبلها موقع «ويكيليكس» تفاصيل واسعة عن ذلك الفساد المستشري في الدولة المنهوبة، لكن من يحاسب من؟


منذ أسابيع عاد الحديث عن محاربة الفساد، تماماً كما حدث من قبل، أخبار غير موثوقة تنتشر على نطاق واسع، عن حملة موسّعة يقودها رأس النظام نفسه ضد فاسدين، و أخذت تلك الأخبار تنتقل عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، كتب أحد المعلقين المقرّبين من السلطة: كعادتك يا سيدي الرئيس فأنت من سوف تستأصل آفة الفساد من سوريا. وسوف تستمر هذه الأخبار بالتداعي بين الفترة والأخرى، و لا نستبعد أن يعود الحديث قريباً عن الشفافية، لكن لا نستطيع الجزم إن كان ثمة متملق جديد سيطلق الاسم على مطعمه.


يأتي هذا بالتزامن مع عبارة الانتصار التي بدأت وسائل إعلام النظام ومسؤولوه باستخدامها بكثرة، فقد اعتبر التلفزيون الحكومي في تقرير موسع له، أن معرض دمشق الدولي رسائل نصر ترسلها دمشق إلى العالم اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وفنياً، طبعاً كل هذا بعيداً عن الخراب الرهيب الذي دمر ثلث المدن السورية على الأقل، وقدرت الأمم المتحدة في تقرير لها عدد المنازل المدمرة كلياً أو جزئياً في سوريا بما يقارب المليوني منزل، والعدد طبعاً مرشح كل يوم للزيادة، مع استمرار القصف شبه اليومي على المناطق الخارجة على سيطرة النظام. لكن هذا كله لا يعني شيئاً بالنسبة لنظام دمشق ووسائل إعلامه، الذين بدؤوا يتحدثون، وبشكل مكثف، عن إعادة الإعمار، أي استجلاب أموال واستثمارات أجنبية للبدء في عملية إعادة الإعمار، طبعاً بوجوه جديدة غير تلك التي صدرت بحقها عقوبات دولية، وهنا نستطيع أن نفهم أسباب الحملة على الفساد، فهي ببساطة دفن للملوثين أو المشبوهين، أو الذين وردت أسماؤهم في تقارير دولية تثبت تورطهم بعمليات تسليح الميلشيات، وخلق طبقة نهب جديدة مرتبطة بالسلطة، بطبيعة الحال.


على هامش هذه التفاصيل المتلاحقة، بدأ الحديث يأخذ شكلاً علنياً عن “دستور جديد” وفعلاً باتت لجان كتابة الدستور جاهزة للانطلاق، وما هي إلا أيام أو أسابيع حتى يصير لدى السوريين دستور جديد، بشبه مباركة أممية، وما عليهم إلا أن يطووا صفحة الماضي، وكأن شيئاً لم يكن، ويعودوا إلى “حضن الوطن” و”بيت الطاعة”، وكي تتحقق تلك العودة فلا بد من تمهيد الطريق بشكل جيد، أولاً عبر فتوى لا يعلم أحد على أي نص ديني تستند أطلقها مفتي دمشق، حرّم فيها الهجرة من الوطن. لكنه طبعاً لم يحرّم التهجير القسري والإبعاد، وتدمير المدن. ثم، وهذا الأهم مرسوم عفو عام صادر عن رأس نظام دمشق، نظر إليه حقوقيون معارضون بريبة وشك، كونه يعج بالثغرات والفراغات التي تخوّل الأجهزة الأمنية اعتقال الكثيرين ممن قد يفكرون بالعودة لأسباب مخنلفة، يطول شرحها في هذه العجالة. لكن ذلك المرسوم نظرت إليه بعض دوائر السياسة العالمية على أنها خطوة إيجابية، وقد عنونت إحدى وسائل الإعلام الأوروبية واسعة الانتشار: الأسد يصدر مرسوم عفو عام، يستثني من حملوا السلاح ضد الدولة. فهل المرسوم الذي أصدره الأسد ينحو هذا المنحى حقاً؟ يكتب محام وناشط سياسي سوري: لا تقرأوا مرسوم العفو بل اقرؤوا استثناءاته.


ثم وعلى ضفة أخرى، بدأ الحديث يصبح علنياً عن اقتراب عودة سوريا إلى “الحضن العربي” حسب تعبير أحد وزراء الخارجية العرب، أي أن جامعة الدول العربية، والتي علّقت عضوية النظام السوري في مجالسها، ونبذته بدفع سعودي قطري، باتت منفتحة الآن لفكرة عودة ذلك النظام، سواء أكانت يداه ملطختين بدماء السوريين أم لا، هذا الأمر ليس مهماً، علماً أن ثلث أنظمة الجامعة العربية تقريباً أياديها ملطخة بالدماء.


هكذا تكتمل الصورة تماماً، إذ لا يمكن فصل أي جزء من أجزائها، و هكذا يعاد تمهيد الطريق وترتيب المستقبل السوري كي يبقى الأسد ويتمدد، إلى الأبد، كما يردد مؤيدوه، “الأسد إلى الأبد” سواء أكان هناك بلد أم لم يكن هناك بلد.


 




العلامات

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!