-
الإسلام السياسي يُحقق وعد أردوغان لـ ماكرون بـ”المزيد من المشكلات”
من الواضح والجلي بأنّ تنظيمات الإسلام السياسي ماهرة تماماً في اللعب على الحبال والتصيّد في المياه العكرة والعمل بازدواجية المعايير، فعندما عمدت أنقرة إلى تحويل متحف آية صوفيا إلى مسجد، رغم أنّها كنيسة تاريخياً، تعالت أصوات تلك التنظيمات على اعتبار أنّ ذلك شأنٌ داخلي تركي، رغم الإساءة الواضحة لمشاعر المسيحيين حول العالم، والذين استنكرت الكثير من كنائسهم الفعل التركي، مطالبين بعدم صب الزيت على النار، وإقحام العالم في أتون حرب دينية، ترفع أنقرة بيرقها، عبر ادّعاء الوصاية على المسلمين في عموم العالم، وكأنّ المسلمين في كل أصقاع المعمورة ينتظرون أنقرة للبتّ في شؤونهم.
لكن تلك التنظيمات اتّخذت راياً مخالفاً عندما بدأت فرنسا تتخذ خطوات تراها مهمة على صعيدها الوطني لحماية قيمها وقوانينها، التي تعتبر شأناً داخلياً ينبغي احترامه، خاصةً من ضيوف في تلك البلاد، قدموا إليها كلاجئين إنسانيين نتيجة الحروب أو الاضطهاد الذي كان يقع عليهم في بلادهم رغم أنّها مسلمة، وهي حروب مهما حاولت الشعوب المسلمة التهرّب من مسؤوليتها وإلقاء لوم وقوعها على “الغرب المتآمر” دوماً، لن يكون بمقدورها التبرّؤ من وزرها، حيث ليست فرنسا من استقبل القاعدة في أفغانستان، وليست من أشعل حرباً عرقية وثم طائفية في العراق، وليست من أوقدت حرباً أهلية في سوريا وليبيا، وليست من موّلت وسلحت مليشيات طائفية في لبنان أو اليمن، وهو أمرٌ تدركه شعوب تلك الدول جيداً.
استغلال عواطف اللاجئين
ثم جاء استعراض الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في بداية أكتوبر الجاري، لمشروع قانون خاص بمكافحة النزعات “الانفصالية” في بلاده، وعلى رأسها “الانفصالية الإسلامية”، وهو أمر ينبغي للدول الإسلامية البحث فيه، حول الجهات التي تمول المساجد والجمعيات في أوروبا باسم الاعمال الخيرية، ولا داعي لذكر قطر وتركيا في كل مرة، فقد أضحى دورها مفضوحاً، ما يستوجب على المسلمين التمحيص فيه، من رغبة الدولتين تحديداً مسك زمام أمور الجاليات المسلمة في الغرب، وتسخيرها لتنفيذ أجندات الطرفين، عبر الضغط على الحكومات الغربية، للقبول بسياسات أنقرة التوسعية، وإلا مواجهة موجات اللاجئين.
أما وقد عجزت أنقرة عن تمرير المزيد من اللاجئين إلى أوروبا، فقد وصل إليها عملياً ما يكفي لإثارة الفوضى والعنف فيما لو رغبت، ما دامت شريحة معينة من هؤلاء المسلمين اللاجئين، على استعداد للانقياد خلف تنظيمات الإسلام السياسي، لإفساد حياتهم، وتدمير صورة اللاجئين أكثر في الوعي الجمعي الغربي، ما سيرفع حتماً معدلات “الإسلام فوبيا”، ويرتد سلباً بالتالي على أبرياء من اللاجئين المسلمين من مختلف الجنسيات، لا ذنب لغالبيتهم في الصورة القاتمة التي يسعى أردوغان وحلفه إلى خلقها حول تياره، فيما الأخير قادر تماماً في أي لحظة يشعر فيه بأنّه يتجه للخسارة على الانسحاب والاعتذار لماكرون، كما اعتذر سابقاً لبوتين، لكن حينها سيكون المسلمون في الغرب من يدفع الفاتورة، كما دفعها وما يزال السوريون في المناطق التي خضعت للنفوذ التركي خلال الحرب الأهلية السورية وخسرها تدريجاً لصالح النظام.
وإن كان المسلمون لم يصلوا لمبتغى باريس، فقد أعلنها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بصريح العبارة عندما قال إنّ فرنسا ستعمل على “مكافحة الانفصالية الإسلاموية” التي تهدف إلى تأسيس مجتمع مضاد، مرتبط بالتوترات بين الأصولية والمشاريع الدينية والسياسية، التي تؤدي إلى تصلب شديد للغاية”، مضيفاً: “هناك في هذا الإسلام الراديكالي، الذي هو صلب موضوعنا إرادة علنية لإظهار تنظيم منهجي يهدف إلى الالتفاف على قانون الجمهورية، وخلق قانون موازٍ، له قيم أخرى، وتطوير تنظيم آخر للمجتمع”.
لماذا استهداف فرنسا؟
ولمن تابع الأحداث منذ بداية العام الجاري، سيدرك تماماً بأنّ باريس قد أضحت غصةً في حلق أنقرة، فقد اعترضت فرنسا في يناير، على الهجمات التركية بحق الكُرد في شمال سوريا، ثم نددت باتفاقية التفاهم الموقّعة بين تركيا والوفاق الإخوانية في ليبيا، وإرسال المرتزقة السوريين إليها، واحتفت بذكرى مذبحة الأرمن، وفي فبراير، قال ماكرون لتركيا إنّ قوانينها لن تُطبق على أرضهم، وذلك في تصريح صحفي، أشار فيه إلى أنّ “تحقيقات في تمويل مساجد ومشاريع محيطة بها”.
ثم جاءت المواجهة في المتوسط، في شهر مايو، عندما ندّدت الإمارات ومصر وفرنسا وقبرص واليونان بتحركات تركيا بالمتوسط، كما اعتبرت باريس نشاطات أنقرة في طرابلس خطراً داهماً، وتعهدت بالتحرك في مواجهة التدخلات التركية بــ”ليبيا”، وقالت إنّها تريد إجراء محادثات بشأن موقف تركيا “العدواني” في ليبيا، مع الدول الأعضاء في حلف الناتو، مشيرةً إلى أنّه “لا يمكن للناتو دفن رأسه في الرمال أمام تصرفات تركيا”.
وفي منتصف يونيو، تم اعتراض فرقاطة فرنسية من قبل أخرى تركية خلال مهمة للناتو أمام السواحل الليبية، ما اعتبره ماكرون دليلاً جديداً على “الموت السريري للناتو”، وكررت معها فرنسا دعوة الأوروبيين لمُناقشة علاقتهم مع تركيا، وقد حمّل ماكرون تركيا “المسؤولية التاريخية والإجرامية” في ليبيا، فيما قالت الصحافة الفرنسية بأنّ “انقرة تضع ثقلها لدعم الإخوان شمال أفريقيا، بمساعدة الجماعات الإرهابية”.
وفي يوليو، استنكرت فرنسا قرار تركيا بشأن “آيا صوفيا”، وقالت إنّه يجب أن يبقى مفتوحاً للجميع، وعليه أتت تحذيرات جديدة لتركيا من فرض المزيد من العقوبات عليها، ليزداد الطين بلة مع قضية اليونان وقبرص، حيث أرسلت باريس طائراتي رافال لحماية قبرص، في منتصف أغسطس، مع رفض عمليات التنقيب التركية شرق المتوسط، وقال ماكرون وقتها إنّ “أردوغان ينتهج سياسة توسعية تتعارض والمصالح الأوروبية”، مشيراً إلى أنّ “الأتراك لا يحترمون سوى الأفعال”، ومتابعاً بالقول: “وضعت خطاً أحمراً لهم”، في إشارة لتأييد باريس لليونان وقبرص في البحر المتوسط، كما اتهمت باريس، أردوغان بخلق “جو إسلامي – قومي”.
وفي بداية سبتمبر الماضي، احتضنت باريس اجتماعاً لسبع دول أوروبية متوسطية، لبحث التجاوزات التركية انتهت برسالة تحذير أخيرة، تم على إثرها سحب سفن تركية كانت تنقّب قبالة سواحل قبرص واليونان، حيث خُيّرت تركيا، آنذاك، ما بين التراجع أو العقوبات.
أردوغان يفي بما وعد
ولعل الهجوم الذي يقوده، حالياً، الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، ليس إلا انتقاماً للسلسلة الطويلة من المواجهات المذكورة آنفاً، بجانب كونها تطبيقاً عملياً لتعهد أطلقه أردوغان، في الثاني عشر من سبتمبر الماضي، عندما هاجم بشكل عنيف نظيره الفرنسي، متوعداً إياه بعقد “المزيد من المشاكل معه شخصياً”، إذ أوردت حينها، وكالة “الأناضول” الرسمية التركية عن أردوغان قوله: “لا تمتلك معلومات تاريخية وتجهل حتى تاريخ فرنسا، فدعك من الانشغال بتركيا وشعبها”، مردفاً: “سيد ماكرون سيكون لديك المزيد من المشاكل معي شخصياً”.
وعليه، يبدو أنّه من الإجحاف بمكان اعتبار بعض المسلمين الرغبة الفرنسية في ضبط الجهات التابعة للإسلام السياسي على أراضيها، والتي ترتبط حكماً بعلاقات مشبوهة مع جهات خارجية تسعى لضرب القيم الغربية في العدل والمساواة بين الجميع، عبر استغلال الخطابات وتفسيرها على هواها، كهجوم مباشر على دينهم، وهو ما ينبغي لعموم المسلمين إدراكه وعدم الانجرار خلفه، ما يتطلب فصلاً حقيقياً بين ما تسعى تنظيمات الإسلام السياسي لتوريط المسلمين اللاجئين لدى الغرب فيه، وما بين العواطف الدينية التي تمتهن تلك التنظيمات اللعب عليها وإيقادها بما سيحرق مستقبل هؤلاء اللاجئين، تحقيقاً لمصالح المتسلّقين على الدين.
ليفانت-خاص
إعداد وتحرير: أحمد قطمة
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!