الوضع المظلم
الثلاثاء ٢٤ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
الإمبراطورية العثمانية ما بعد الثورات العربية
مزن مرشد

انتهت الحرب العالمية الأولى في عام 1918، ليبدأ اقتسام ما سمي بتركة الرجل المريض. تقاسمت الدول العظمى بُعيد الثورة العربية الكبرى الأراضي التي كانت ترزح تحت الاحتلال العثماني، فانتهت بذلك الإمبراطورية التركية، وطويت صفحة الخلافة والولاية للأتراك على كامل العالم الإسلامي تقريباً، بشكل عام، والعالم العربي، بشكل خاص. الإمبراطورية العثمانية 


احتلّت الجيوش الغربية إسطنبول، ليظهر مصطفى كمال أتاتورك كقائد للمقاومة، وتصل شعبيته إلى ذروتها بعد انتصاره في معركة سقاريا 1921، وطرد اليونان من الأراضي التركية التي احتلتها، ما رسّخ صورته كمناضل وطني ومنقذ للبلاد.


وفي 24 آذار/ مارس 1924، تسلّم مصطفى كمال أتاتورك الحكم في تركيارسمياً، ليعلنها جمهوريةً، مسقطاً الخلافة الإسلامية عنها، مبتدئاً مشواره ببناء تركيا مختلفة تماماً عن ماضيها التوسعي، مؤسساً لما نراها عليه اليوم.


أعلن أتاتورك جمهوريته الجديدة دولة علمانية، يتساوى جميع مواطنيها أمام القانون، وتفصل تماماً الدين عن الدولة، فاستطاعت تركيا منذ ذلك الوقت أن تبني دولة قوية اقتصادياً، وسياحياً، واجتماعياً، وعلمياً، وأن تكون منارة حضارة وديمقراطية وعلمانية على حدود دول لم تعرف الديمقراطية يوماً.


الوضع المستقر سياسياً لتركيا القوية، بدأ يتغير أيديولوجياً بعد وصول حركة العدالة والتنمية للحكم -ديمقراطياً- حيث بدأ الحزب بالزحف ببطء على قواعد مؤسس الجمهورية، والتحايل على كل ما بناه، محاولاً الالتفاف على علمانية البلاد، وإعادة زجّ الدين في سياسة الدولة، وهذا ما يجد له اليوم الكثير من المؤيدين العرب عامة والسوريين خاصة، من منطق حميّة دينية، والحلم الأزلي لدى البعض بعودة الإمبراطورية الإسلامية، كحل لما تعانيه المنطقة من تبعات الديكتاتوريات التي أرهقت البلاد العربية منذ استقلالها.


ظهر هذا التحوّل جلياً، بعد محاولة الانقلاب، في 15 تموز/ يوليو 2016، فتم فصل العلمانيين من وظائفهم وسجن آخرين، وأيضاً تم تغيير بعض مواد الدستور التي من شأنها تقييد الحريات، وفرض الرقابة على الإعلام وسجن العديد من الصحفيين المعارضين للحزب الحاكم، ليس هذا فقد، بل صوّت البرلمان التركي أيضاً على بعض التعديلات الدستورية التي كانت في ظاهرها كردّ فعل على الانقلاب، وفي عمقها تمهد لتحويل تركيا إلى حكم أبدي، كجاراتها من الدول العربية.


عندما قامت الإمبراطورية البريطانية باستخدام العرب ضد الإمبراطورية العثمانية، استخدمت بريطانيا القضية الدينية ذريعة للتحريض ضد العثمانيين، من مبدأ أنّ الأتراك لم يكونوا إسلاميين بما فيه الكفاية، على عكس شبه الجزيرة العربية، أرض الرسالة، ومهبطها، فالإسلام التركي كان أكثر انفتاحاً منه في الحجاز ويتمتع بهامش الاجتهاد، إضافة إلى خلق أطماع الملكية في حال انتصرت الثورة، وهذا ما كان، فمُنح الشريف حسين وذريّته حكم المملكة الأردنية الهامشية، ومنح الحجاز لآل سعود، وأقيمت المملكة العربية السعودية، الأمر الذي ظلّ باعتقادي ينخر في صميم القوميين الأتراك حتى اللحظة، والذين يعتبرون أنّ إمبراطوريتهم الإسلامية العثمانية أُسقطت بالمؤامرة،


ومن أجل إقامة المملكة السعودية، اليوم، ما يزال الإسلام في تركيا أكثر مرونة منه في السعودية، لكن الفارق السياسي هو موقف الدولتين من أميركا، فتركيا غالباً ما تكون في الجانب الأمريكي، ولكن ليس دائماً، وهذا ما أثبتته خلال الحرب السورية، فمثلاً تقرّبت أحياناً من روسيا، وهو ما انتقدته واشنطن بشدة، في حين لا تستطيع المملكة العربية السعودية أن تأخذ أي موقف لا يتوافق مع السياسة الأمريكية، ولا يخرج ملوكها عن الطاعة الأمريكية أبداً، فهي تعتمد بشكل كبير على الولايات المتحدة، الأمر الذي يجعل الأكثرية السنيّة العربية ترى هالة من القوة حول جرأة أردوغان في مواجهته للولايات المتحدة أحياناً، الأمر الذي لا يستطيع القادة السعوديون الوصول إليه، فيميل المسلمون العرب إلى حكومة أردوغان التي تمثّل بالنسبة لهم الدولة السنيّة الأقوى في العالم، متناسين عن عمد أنّ أردوغان يلتزم بحماية الدستور العلماني، وإن كان يحاول أن يغير وجه العلمانية في تركيا ولو ببطء.


من الضروري أن نفهم لماذا تستخدم تركيا الرداء السني الأكثر جاذبية للأكثرية السنية العربية، فهي تقدم نفسها كنموذج سني أفضل من المملكة بكثير، وتفتخر بتقدمها العلمي والحضاري، تاريخياً عليها.


وضمنياً، تعتبر تركيا الأردوغانية أنّ المملكة سُرقت جزئياً من الإمبراطورية العثمانية، وانتُزِعت من يدها عنوة إثر الثورة العربية الكبرى، فيزداد العداء غير المعلن تجاه المملكة.


في حين أنّ السعودية تعتبر أنّ السنة تتبع لها وبأنّها أمها وأبوها ومهدها، وأنّ الدين الحنيف دين أجنبي في تركيا، قدم إلى البلاد عبر الفتوحات، وليس ديناً أصيلاً للأتراك، وعملية التكيف مع الدين كانت متقلبة، وليسوا ملتزمين بسنة النبي عليه السلام كما يجب، فهم أكثر انفتاحاً فيها، من ناحية أخرى، يعتقد العرب أنّ السنة تنتمي إليهم أولاً ثم بعد ذلك فقط للآخرين، وهذا يقطع إلى حدّ ما الجذب الذي يمكن للسنية أن تمارسه على السكان غير الناطقين بالعربية، لكن حزب العدالة والتنمية استطاع تحقيق المعادلة الصعبة، واستمالة العرب السنة بشكل غير مسبوق في التاريخ.


اليوم تدخل تركيا عبر حلفائها العرب إلى عمق الأراضي التي خرجت منها منذ مئة عام ونيف، تدخلها كمدافع وحامٍ، معلنة أنّه لا نية لها بالبقاء، ولكن غايتها المساعدة لا أكثر، فترفع الأعلام التركية في الشمال السورية، وفي وسط ليبيا، ليصبح لتركيا ممر بحري واسع يصلها بشمال أفريقيا البعيدة، اليوم لم يعد الأتراك يختبؤون في الجبل الأسود أو سوريا أو الصومال، بل باتوا يعملون علناً، وهذه المرة ليس من أجل المصالح الضيقة لدولتهم، بل يفعلون ذلك سعياً لعودة إمبراطوريتهم الإسلامية العظيمة التي كانت يوماً، والمصممة لتغطية الكوكب بأكمله، وتحقيق السلام للبشرية في نهاية المطاف، على طريقتهم التي يعتقدون بأنّها الأفضل للجميع.


 مزن مرشد 

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!