-
الاتفاق النووي.. فشل من قبل ومن بعد
الولايات المتحدة الأمريكية وإيران تقتربان الآن أكثر من أي وقت مضى من العودة إلى الاتفاق النووي، ويبدو أن كلا الدولتين تهيئان الرأي العام في بلديهما والعالم لهذا الحدث، بإرسال كل منهما رسائل علنية عبر الإعلام، ستعيد واشنطن الاتفاق مع طهران، ليست هذه مفاجأة، فلا أستبعد أن يكون بايدن قد اتخذ القرار بالفعل منذ شهور، وما يتم تداوله في الأيام الأخيرة مجرد ضبط للصيغة التي سيخرج بها، فكل التحركات الأمريكية في هذا الاتجاه كانت تدل على ذلك، حتى تصريحات بايدن في يوليو الماضي أثناء زيارته للشرق الأوسط، وما صدر عنه في اجتماعاته مع قادة الدول المشاركة في قمة جدة، لا يعدو كونه تهيئة للحلفاء لتقبّل حتمية العودة للاتفاق النووي مع طهران.
أما عن مضمون الاتفاق فهو نفسه تقريباً الاتفاق السابق الذي وقعه باراك أوباما في 2015، وانسحب منه دونالد ترامب في 2018، بمراسيم رئاسية غير معقّدة واصفاً إياها بأسوأ اتفاق في التاريخ، وأعاد فرض العقوبات على إيران وأضاف عليها عقوبات جديدة وصفها بـالتاريخية، الاتفاق الذي وقعته إيران مع مجموعة الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، بالإضافة إلى ألمانيا، (5+1) لم يكن من الأساس يلبي الطموحات المرجوه منه بتقليم أظافر إيران النووية.
كما سبقه في 2013 اتفاق مؤقت في جنيف بين إيران ونفس المجموعة اشترط فترة ستة أشهر، جُددت فيما بعد، وتم بموجبه رفع التجميد عن ودائع إيرانية قيمتها 700 مليون دولار في البنوك الغربية، مقابل فتح إيران منشآتها للتفتيش الدولي، مَهدَّ هذا الاتفاق المؤقت إلى اتفاق 2015 الذي يلزم إيران بضبط مستويات تخصيب اليورانيوم بحيث لا تتجاوز نسبة 3.67 %، ولم تكن ثمة طريقة تؤكد لمؤسسات التفتيش الدولية أن إيران تلتزم بذلك، فكانت سراً تخصب اليورانيوم، فيما وصلت هذه النسبة بعد انسحاب ترامب من الاتفاق إلى 60 % حتى كانت قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى 90 %، وهي النسبة المطلوبة لإنتاج قنبلة نووية، كما أن اتفاق 2015 حُدد بعشر سنوات ولو لم يكن دونالد ترامب قد خرج منه لكان يتبقى له أقل من ثلاث سنوات ليصبح منتهي الصلاحية، فما بالنا اليوم ونحن على وشك إحيائه من جديد بنفس مساوئه، فالعودة إلى السيئ القديم مع مرور الزمن، هي بلا شك ستكون أسوأ.
الآن تعاد كتابة الاتفاق بنفس الصياغة، فقط تغيرت الأحبار والأقلام وتغيرت أيضاً الظروف العالمية، فأوروبا على سبيل المثال التي سعت جاهدة للإبقاء على الاتفاق النووي مع إيران؛ تعيش الآن واحدة من أسوأ لحظاتها التاريخية في انتظار شتاء حالك السواد بعد التحديات الكبرى التي فرضتها الحرب الروسية - الأوكرانية، في مجال الطاقة، وتفتش الآن عن حلول، بعد تراجع دورها وتأثيرها في العالم.
إدارة جو بايدن منذ دخولها البيت الأبيض أصرّت على إعادة تفعيل الاتفاق النووي، وتراه أفضل حل، وسعت للعودة بشكلٍ متعجلٍ، وتعد ذلك نصراً دبلوماسياً، قبل موعد الانتخابات النصفية في نوفمبر القادم، ربما فقط لتقول للداخل الأمريكي إن دونالد ترامب والجمهوريين أخطؤوا بالتخلّي عن الاتفاق، وهي الآن تصحح الخطأ، وليس خافياً عليها بالطبع أن البرنامج النووي الإيراني بات متطوراً، فقبل أيام قليلة خرجت تصريحات على لسان جون كيربي، منسق الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي في مقابلة مع شبكة (CNN)، تقول إن الولايات المتحدة أقرب للتوصل إلى اتفاق مع إيران بشكل أكبر مما كانت عليه قبل أسبوعين، وذلك بفضل استعداد طهران للتنازل عن قضايا رئيسة.
أما إيران التي تفاوض على الاتفاق في الغرف المكيفة واللقاءات الدبلوماسية، فقد استطاعت تجاوز العقوبات والتعايش معها والالتفاف عليها، وأدركت سريعاً أنها أمام جولات طويلة من المفاوضات مع واشنطن، ولن توقف تخصيبها لليورانيوم ولو لساعة واحدة وتستنفذ الوقت على طريقة "لا مانع من أن نتحدث ونخصب في نفس الوقت"، على صعيد الكلام قالت وزارة الخارجية الإيرانية إن مفاوضات إحياء الاتفاق النووي المبرم بين طهران والقوى العالمية تمضي بمسار إيجابي، وذكر المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، ناصر كنعاني، في لقاء مع وكالة الأنباء الإيرانية أن المفاوضات النووية تسير ضمن مسار إيجابي، وأن القضايا المتبقية تتعلق برفع العقوبات، وهي قليلة لكنها جوهرية وحساسة ومصيرية، وأن بلاده ستجيب على الرد الأمريكي على مقترح الاتحاد الأوروبي لإحياء الاتفاق النووي في أول فرصة ممكنة، وذلك بعد انتهاء دراسة الخبراء له، وأضاف المتحدث أن الإعلان عن تفاصيل المفاوضات لا يخدم النتائج المرجوة منها.
إذا كانت الولايات المتحدة هذه الأيام تعلنها صراحة أنها تطارد "عفريت النووي" الإيراني، وتسوّق لانتصارد قادم في منع إيران من إنتاج قنبلة نووية، فالتاريخ يقول إن الولايات المتحدة هي نفسها من حضرت هذا العفريت وفتحت باباً للتسلح النووي دولياً، حيث بدأت إيران برنامجها النووي في نهاية الخمسينات في عهد الشاه محمد رضا بهلوي، وتحديداً في العام 1957 عندما وقعت هي وبلدان أخرى اتفاقية مع الولايات المتحدة الأمريكية، بهذا الصدد قادت إلى تعاون أمريكي – إيراني في بناء عدة مفاعلات نووية استغرق العمل فيها نحو عقد من الزمن.
وحتى تكون الأمور دقيقة فلم تكن إيران منذ البداية لتمضي في برنامجها النووي لولا مساعدة الولايات المتحدة والتي فعلت ذلك في إطار برنامج شهير أسمته الصحافة حينها "الذرة من أجل السلام"، أطلقه الرئيس دوايت إيزنهاور في 1954، وكان قد تحدث عنه في خطاب شهير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة نهاية 1953، دعا فيه إلى الاستخدام السلمي للذرة بما يساهم في التطور والتنمية وتقدم الإنسان، على أن تقوم أمريكا بتزويد العديد من حلفائها في العالم الثالث بمعدات وخبرات نووية ومتخصصين للتدريب على استخدام هذه المعدات لأغراض سلمية كتوليد الطاقة والبحث العلمي، وجيوسياسياً كانت أمريكا تريد تقوية حلفائها في الحرب الباردة تنموياً وضمان تقدمهم إزاء دول المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي.
منذ ذلك التوقيت حصلت إيران وتركيا وباكستان والأرجنتين والبرازيل وإسرائيل ودول أخرى على إمكانيات تخصيب لليورانيوم تتناسب مع الاستخدامات السلمية، كما قامت الولايات المتحدة في الستينيات ببناء منشأة ننطز النووية في إيران.
مخاوف دول المنطقة العربية من إيران لا تقتصر على السلاح النووي؛ بل في تدخلها عبر أذرعها في العديد من البلدان، وفي سياساتها التوسعية الخطرة، وانشغال الولايات المتحدة باتفاق فرغ من مضمونة واختصار الأزمات كلها فيه أمر مبالغ فيه، لدرجة تجعلنا لا نبالغ لو قلنا إن أمريكا وإيران تضيعان الوقت والجهد وتعلمان ذلك جيداً، وكأنه ثمة اتفاق بينهما على ذلك، أو كأننا في مسرحية عالمية مثيرة.
أخيراً.. لن تقدم عودة أمريكا للاتفاق النووي أي جديد، ومخطئ من يظن أنها ستنفع الديمقراطيين قبل الانتخابات أو ستخدم حلفاء أمريكا، بل بالعكس ستضرهم، وبالطبع هي والعدم سواء فيما يخص كبح جماح النووي الإيراني، التجربة أثبت أن اللين مع إيران لا فائدة فيه.
ليفانت - حسام فاروق
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!