الوضع المظلم
الأحد ٠٥ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
الاستبعاد على وقع قرقعة بطون العباد
عبير نصر

ثمّة من يعتقد واهماً أنّ بإمكان النظام السوري، وعبر سياساته البهلوانية المبتكرة، إبعاد السوريين عن مطالبهم في الانتقال إلى دولة الحريات والقانون، هم الذين يدركون اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، أنّ مؤسسات الدولة الرسمية مختطفة من قِبل طغمة حاكمة تفرض نفسها بالحديد والنار، بينما يضرب الجوع أطنابه في كلّ زاوية من سوريا، فحلم القابعين في مناطق الأسد لا يتعدى الحصول على رغيف الخبز، وتفكيرهم في الواقع ينحصر كلياً برسالة "البطاقة الذكية" لينتقلوا بعدها إلى معاناة أكبر، تتجلى في الوقوف على امتداد "طوابير القهر" أمام محطات الوقود والأفران والمؤسسات الاستهلاكية وغيرها، للحصول على ما تزعم آلة النظام الإعلامية أنها من مكرمات الأسد.

وسوريا التي لم تعد تمتلك شيئاً من مقومات الدولة لن تتعافى بوجود هذا النظام الذي رهن الموانئ والمطارات والمعامل الكبرى للروس لقاء حمايته، وبسبب حربه الفاشية الشعواء خرجت عن سيطرته مساحات كبيرة من شمال شرقي سوريا، فيها سلة الحبوب والغذاء وغالبية آبار النفط والغاز، عدا عن تدمير الزراعة والصناعة والسياحة والتجارة، لتتحول البلاد إلى مزرعة شخصية لآل الأسد والمقربين منه، بينما تطحن آلة الحرب صدور الغالبية العظمى من السوريين، الذين يتفرجون على ما قدمت أيديهم من خذلان لأصحاب ثورة الكرامة التي راح ضحيتها نحو مليون قتيل وأكثر من 12 مليون بين نازح ومهجر.

بطبيعة الحال، إنّ مأسسة الفساد وتجذّره على مدى عقود من حكم استبدادي قد تـَطـوّر، وطـوّر معه أشكالاً أخرى من الفساد التي لم تعد تقتصر على النهب المالي التقليدي، بل تعداه إلى تجاوز إرادة الشعب وكرامته عبر القرارات والمراسيم الظالمة، وانتهاج سياسات تصب في مصلحة النظام الفاسد، حتّى وإن كانت تتعارض والمصالح الوطنية للدولة ومستقبلها واستقلال إرادتها. والحقيقة إنّ سلب إرادة وحقوق السوريين وإخضاعهم لمجموعة من الفاسدين هي محاولة لإعادة صياغة طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتحويلها من "عقد اجتماعي" طوعي ومتوازن بين الحقوق والواجبات إلى "عقد إذعان" تختفي بموجبه ضمانات فعلية لحقوق الشعب السوري، ما أدّى إلى زيادة مشاعر الخيبة والإحباط، ظهرت من خلال الانتقادات التي تمّ التعبير عنها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كذلك على صورة احتجاجات صغيرة ظلت محصورةً في مناطق محلّيّة محدودة، أهمها تلك التي خرجت من مدينة السويداء وطالبت بإسقاط النظام وإخراج إيران وروسيا، ولن تكون آخرها بالطبع تعرض "مركز تكافل" لاستخراج البطاقات الذكية في مدينة مصياف بريف حماة، لعملية سطو من قِبل شبان مجهولين، ما أدى لخروج المركز عن الخدمة بعد سرقة كافة التجهيزات. يذكر أنّ عملية السطو جاءت على خلفية قيام حكومة نظام الأسد باستبعاد شرائح واسعة من السوريين من الدعم الحكومي في مناطق سيطرته، عبر ما يعرف بـ"البطاقة الذكية"، إذ شملت عملية الاستبعاد الجائرة مئات آلاف الأسر المسحوقة.

وعليه فإن ثورة الجياع ربما تكون قادمة، وبأسرع ما يتوقع الكثيرون، فلم تعد الديمقراطية والحريات هي قمة الأولويات للأغلبية الساحقة من السوريين، في الوقت الراهن على الأقل، وإنما لقمة الخبز المخبوزة بالكرامة وعزة النفس، فالديمقراطية "ترف" مؤجل بالنسبة للجائع والعاطل عن العمل الذي لا يجد رغيف الخبز لأطفاله، ناهيك عن الدواء والخدمات الصحية والتعليمية في بلد يسوده الفساد والديكتاتورية والتغول الطبقي. في سياق متصل إن الانخراط في مسلسل الصمت والاستسلام يطيل عمر الاستبداد ويغريه، كما يعتبر مخالفة شرعية وقانونية صريحة وسافرة للحكم الراشد ولإرادة الشعب، وبالتالي هو تعايش مفضوح مع الاستبداد في ظلّ نظام زئبقي اعتاش على زعاق الشعارات القومية، وما زال حتى اللحظة ينادي بتحرير فلسطين المحتلة. هو المترفّع أصلاً عن إنقاذ شعبه الذي يعيش أقسى الظروف الإنسانية والمعيشية، في وقت يتمكن فيه أهالي الداخل الفلسطيني المحتل، أنفسهم، وضمن حملة "فاعل خير" من جمع أكثر من مليون دولار خلال ساعات لبناء بيوت للسوريين في مخيمات اللاجئين شمال سوريا، حيث تداولت مواقع التواصل الاجتماعي عدّة مقاطع مصورة لفلسطينيين خلال تبرعهم لصالح الحملة، التي وصلت إلى مخيم شعفاط للاجئين الفلسطينيين شمال شرق القدس المحتلة، وهتف أحد المتبرعين: "لبيك يا سوريا.. لبيك يا سوريا".

من البديهي الاعتراف بأنّ سياسة إفقار الشعوب هي ثقافة مبتكرة ذات طبيعة جُرمـِيـّة عِقابية على من ينفذها ومن يدعمها ومن يدافع عنها، وهي تستند إلى افتراضات زائفة تهدف إلى تبرير الفساد. وحقيقة إن الأزمنة التي خلت من الفساد كان للمال العام حرمة لا يمكن تجاهلها، ومن هنا كان اصطلاح الفساد أمراً غير متداول واقتصرت مدلولاته في تلك الحقبة على السرقة واللصوصية بمفهومها الإجرامي المُعيب. أما اصطلاح الفساد بمدلولاته الحالية في سوريا فقد ارتبط ظهوره بظهور النظام الدكتاتوري الذي جاء إلى الحكم على ظهر دبابة مدججاً بأطماعٍ لا حدّ ولا نظير لها، وما إن استقر له الحكم حتى افترض أنه صاحب الحقّ في ثروة البلد التي يحكمها.

هذا النظام دفع إلى سطح السلطة والعمل السياسي بمجموعة من الأفراد ذوي الخلفية الأخلاقية البراغماتية، والاستعداد الفطري لاعتبار المال العام جزءاً من حقوقهم الشخصية. وهم بالتالي، ومن وجهة نظرهم الخاصة، لا يسرقون بل يأخذون ما يعتبرونه حقاً لهم. دعونا نتذكر أنه خلال عهد حافظ الأسد شهدت آثار تدمر سرقة ممنهجة على يد شقيقه رفعت، حيث كلّف سرايا الدفاع خلال النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي بالتنقيب عن الآثار، ليبيعها لاحقاً في الأسواق الأوربية، ومع استلام بشار الأسد الحكم، تولّت شقيقته بشرى وزوجها عملية التنقيب عن آثار المدينة وسرقتها. من المؤكد أنه عندما يتحول الفساد إلى مؤسسة رسمية يشكل بداية الإنهيار في أي دولة، ويصبح مستقبلها قاتماً ومشكوكاً بأمره، يتزامن مع عدد الأفواه الفارغة، التي لن تتوانى عن نهش لحم حكوماتها مالم تجد كسرة توقف قرقعة البطون على الأقل. واستمرار الحالة السورية دون القيام بتغيير سياسي حقيقي سيؤدي إلى مزيد من التدهور الاقتصادي، وإلى ثورة جائعين، بينما مَن يستطيع تحريك عجلة الاقتصاد منفيّ خارج البلاد بسبب دموية النظام وامتلاكه أداة وحيدة في جعبته، وهي المطرقة التي يضرب بها كلّ حراك  يهدف إلى حلّ سياسي يخرج سوريا من مأزقها التاريخي.

إشارة أخيرة إلى أنه وعندما أدركت الشركة المصنعة لسيارات فيراري الإيطالية الفاخرة انخفاض مبيعاتها في إسبانيا، أجرت دراسات لمعرفة السبب، فوجدت أنّ الطبقة الغنية التي تشتري هذا النوع من السيارات ما زالت على غناها رغم الأزمة الاقتصادية في البلاد، فذهبت إليهم تسأل عن أسباب هذه الظاهرة، فقالوا للباحثين: "كيف تريدونا أن نشتري سيارة فيراري ثمنها 250 ألف يورو على الأقل، نقودها في الشوارع، بينما الفقراء والعاطلين عن العمل يتظاهرون في الشوارع احتجاجاً على ظروفهم المعيشية السيئة، ويعانون من البطالة والفقر وضيق اليد؟". هذا التعفف لا شك ترجمة لموقف طبقي عميق مفاده أن هذه البرجوازية في فترة الأزمة عليها الانتباه إلى كلّ عوامل الصراع الطبقي، وعليها التصرّف بالسلوك الأخلاقي الذي يحافظ على السلم الاجتماعي، وتجنّب احتداد هذا الصراع.

ليفانت - عبير نصر

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!