-
الاستشارة الوطنية في تونس: نجاح التجربة رغم النقائص
لن يكون تقييمي للاستشارة الوطنية مرتبطاً بفكرة الإقرار بنجاحها الباهر من جهة، أو الإقرار بفشلها الذريع من جهة أخرى، لما يحمله ذلك من موقف انطباعي لا يتعامل بعمق مع مسار الاستشارة الوطنية.
في هذا الإطار، هناك مجموعة من النقاط التي لا بد من إثارتها:
-ماهي الاستشارة؟
-أهمية الاستشارة.
-تقييم الاستشارة: من خلال نقاط الضعف ونقاط القوة فيها.
إن التوقف على النقاط المذكورة آنفاً، يحيلنا إلى سؤال جوهري: ماذا بعد الاستشارة؟
ما هي الاستشارة الوطنية؟
يمكن تعريف الاستشارة الوطنية كآلية من آليات الديمقراطية التشاركية. جاءت الديمقراطية التشاركية كمحاولة لتجاوز أزمة الديمقراطية التمثيلية وتكميلها. وقد استعملت الولايات المتحدة الأمريكية ودول أمريكا اللاتينية، مثل "الأرجنتين" و"البرازيل" هذا النموذج خلال فترة السبعينات، ونخص بالذكر مدينة "مونتي أليغري" البرازيلية التي تشكل نموذجاً راقياً للديمقراطية التشاركية. كما ازدادت الدعوات إلى اعتماد الديمقراطية التشاركية في أوروبا الغربية، ووقع التأكيد في مؤتمر الاتحاد الأوربي حول الديمقراطية التشاركية المنعقد بالعاصمة البلجيكية في 8 و9 مارس 2004 على أن "الديمقراطية التشاركية هي الحل [لأزمة الديمقراطية الأوربية] وقيمة مضافة لدول الاتحاد الأوروبي”.
وتقوم الديمقراطية التشاركية على جملة من الآليات والإجراءات التي تمكّن من إشراك المواطنين والمجتمع المدني بطريقة مباشرة في صنع السياسات العامة وتدعيم مشاركتهم باتخاذ القرار فيما يتعلق بإدارة الشأن العام على مستوى وطني وكذلك محلي. من بين آليات الديمقراطية التشاركية يمكن أن نذكر: الاستفتاء الشعبي، المبادرة الشعبية، وهي آلية اقتراح متاحة للمواطنين لعرض اقتراحاتهم على الاستفتاء لتصبح نافذة ومضمنة بالدستور شريطة توفر عدد معين من التوقيعات. ففي سويسرا مثلاً التي اعتمدت المبادرة الشعبية كوسيلة سياسية منذ 1891، يتطلب الأمر توفر 100 ألف توقيع سليم وموثق من طرف الناخبين لفائدتها في ظرف لا يتجاوز 18 شهراً.
هناك أيضاً آلية تقديم العرائض التي تتيح للمواطنين تقديم العرائض إلى السلطات المختصة، كالبرلمان مثلاً، بغاية عرض مشروع تعديل أو اقتراح قانون أو أي مبادرة أخرى. وهي تقنية قديمة عرفها النظام الملكي البريطاني منذ سنة 1215. وقد نص الدستور المغربي لسنة 2011 في المادة 15 على آلية تقديم العرائض. كما نص الفصل 14 من نفس الدستور على المبادرة الشعبية.
من آليات الديمقراطية التشاركية نجد كذلك الميزانية أو الموازنة التشاركية وهي عملية من المشاورة الديمقراطية يقرر من خلالها المواطنون كيفية تخصيص جزء من الميزانية البلدية أو العامة. تم استعمال الموازنة التشاركية لأول مرة في مدينة بورتو أليغري، في البرازيل، سنة 1989، ثمّ انتشرت في عدد من مدن أمريكا اللاتينية وأمريكا الشمالية وأوروبا وآسيا وإفريقيا. في تونس، بدأ استعمال هذه الآلية من خلال بعض التجارب النموذجية لبعض البلديات، مثل بلديّة المرسى وصيادة ومنزل بورقيبة، وتستوجب هذه التجارب تطويرها وتعميمها.
ومع النمو المتسارع لتكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصال الحديثة، أصبحنا نتحدث عن نمط جديد من الممارسات الديمقراطية يعمق ويوسع مبدأ التشاركية في إطار مجتمع شبكي. ذلك ما يفسر انتشار ظاهرة العرائض الإلكترونية واعتماد آلية التصويت الإلكتروني عن بعد في العالم. ويمكن أن تكون الاستشارة الوطنية الإلكترونية في هذا السياق من خلال اعتبارها آلية لممارسة الديمقراطية التشاركية قائمة على استعمال التكنولوجيا الحديثة لتمكين المواطنين من المشاركة الفعلية في الشأن العام، وهي المرحلة الأولى من مراحل عملية اتخاذ القرار السياسي.
بعيداً عن التجارب المقارنة، لا بد من التذكير بأنه وقعت الإشارة إلى فكرة الديمقراطية التشاركية على مستوى محلي في دستور 2014، تحديداً في الفصل 139 من الباب السابع الخاص بالسلطة المحلية، الذي نص على اعتماد الجماعات المحلية آليات الديمقراطية التشاركية وآليات الحوكمة المفتوحة لضمان مساهمة المواطنين ومكونات المجتمع المدني في إعداد ومتابعة تنفيذ برامج التنمية والتهيئة الترابية، إضافة إلى الفصل 29 من مجلة الجماعات المحلية، الذي نص على وجوبية اعتماد آليات الديمقراطية التشاركية بالنسبة لبرامج التنمية والتهيئة الترابية وتمكين مكونات المجتمع المدني من المشاركة الفعلية والمساهمة في إعداد وإنجاز وتقييم هذه البرامج، ومن بين هذه الآليات الاستشارة والاستفتاء. أما على مستوى وطني، فقد جاء الأمر الحكومي المنظم للاستشارات العمومية، وهو الأمر الحكومي عدد 328 لسنة 2018 مؤرخ في 29 مارس 2018 المتعلق بتنظيم الاستشارات العمومية.
بالنسبة إلى الاستشارة الوطنية التي أعلن عنها رئيس الجمهورية يوم 13 ديسمبر 2021 كأول خطوة في خارطة الطريق للخروج من المرحلة الاستثنائية، تعتبر بمثابة نقطة أولى في مرحلة أو أنها النقطة الفاصلة للانتقال من الاستثناء إلى الاستفتاء. والاستشارة جاءت كآلية من آليات الديمقراطية التشاركية التي تعمل على توسيع القاعدة الاجتماعية للسلطة السياسية لتمكين المواطنين من الإدارة المشتركة للشأن العام. لكن تجدر الإشارة كذلك إلى أن الاستشارة الوطنية هي تجسيد عملي لإرادة الشعب ومقولة أن الشعب هو صاحب السيادة وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وهي حوار مباشر مع الشعب للخروج من الأزمة السياسية.
-أهمية الاستشارة الوطنية:
تكمن أهمية الاستشارة الوطنية في فكرتها بحدّ ذاتها، إذ لم تعتمد شكل الحوار الكلاسيكي وجاءت خارجة عن الصندوق من حيث بنيتها الفنية المتمثلة في المنصّة الإلكترونية لتصل إلى أكثر عدد ممكن من المواطنين، وخاصة الشباب. من هنا تبرز الاستشارة كتجربة جديدة للحوار وهي نتاج تجارب حوارات فاشلة. كما يمكن اعتبار الاستشارة الوطنية وسيلة تفكير استراتيجي تنطلق من الفاعلين الأصليين في إدارة الشأن العام واتخاذ القرار السياسي، نتحدث هنا عن المواطنين والمجتمع المدني.
ونظراً لتراكم أوجه القطيعة: القطيعة بين الممثل والممثل، القطيعة بين الشعب والوسائط، القطيعة بين الحاكم والمحكوم فيما يتعلق بأحكام الدستور، يمكن اعتبار الاستشارة الوطنية كمحاولة لتجاور مختلف أنواع القطيعة من خلال النقاط التالية:
-تجاوز الفاعل التقليدي (الأحزاب) في العملية السياسية ومشاركة فاعل سياسي جديد في اتخاذ القرار السياسي من قبيل المواطنين والمجتمع المدني والمجتمع الأهلي.
-استكمال المسار الثوري انطلاقاً من لحظتين مفصليتين عبر فيهما الشعب التونسي عن رفضه للسيستم (المنظومة): نتائج الانتخابات الرئاسية 2019، ولحظة 25 يوليو 2021.
-معرفة نبض الشارع والتوجهات العامة لصياغة الإصلاحات الدستورية اللازمة قبل عرضها على الاستفتاء.
-استعادة المجتمع المدني لدوره كهمزة وصل بين المواطن ومؤسسات الدولة ودوره كفاعل أساسي وشريك في العملية السياسية.
ورغم ارتباط مخرجات المحور السياسي والانتخابي مباشرة بتحديد الإصلاحات السياسية التي ستعرض على الاستفتاء، إلا أن المحاور الأخرى لا تقل أهمية عن المحور الأول ذلك أنها تستهدف السياسات العامة المستقبلية للدولة.
تقييم الاستشارة
-هل كانت الاستشارة تجسيداً لـ"مشروع الرئيس" أم لإرادة الشعب؟
أولاً، ما هو مشروع الرئيس الذي كثيراً ما اقترن بالاستشارة الوطنية ولم يفصح عنه رئيس الجمهورية بنفسه، منذ 25 يوليو، رغم أن لا شيء يمنعه من تقديم رؤيته للإصلاح وطرحها للنقاش، إلا أنه اختار خارطة طريق ترمي إلى تقديم الإصلاحات الضرورية بهدف إنقاذ الدولة والخروج من حالة الاستثناء لا فرض مقاربته.
مبدئياً، يمكن القول إن الهدف من الاستشارة الوطنية لم يكن تمرير مشروع معين بقدر ما هو أخذ رأي المواطنين وتطلعاتهم للاستئناس بها في عملية الإصلاح السابقة للاستفتاء وفي السياسات العامة للدولة. بعبارة أوضح لم تقتصر الاستشارة على الجانب السياسي، إذ كانت هناك محاور تهم الشأن العام، كالجانب الاقتصادي والاجتماعي والتعليم والثقافة والتنمية المستدامة.
كان الهدف من الاستشارة الوطنية قبل كل شيء إشراك المواطنين في الخروج من الأزمة وتقرير مصير البلاد والتعبير عن إرادتهم من خلال آرائهم فيما استشيروا حوله ومقترحاتهم. وإرادة الشعب ستتحقق عملياً على مراحل: مرحلة الاستفتاء، مرحلة الانتخابات التشريعية، مرحلة رسم السياسات العامة للدولة انطلاقاً من التوجهات والأولويات التي اختارها المواطنون عند الإجابة على المحاور الخمسة اللاحقة للمحور السياسي والانتخابي.
نقاط الضعف في الاستشارة
عدم تجاوز عدد المشاركات 500000 مشارك لأسباب متعددة يمكن أن نذكر منها:
-صعوبات تقنية متعلقة بكيفية الولوج إلى المنصة الإلكترونية، كان هناك تركيز على حماية المعطيات الشخصية على حساب تيسير عملية التسجيل التي انقسمت في حقيقة الأمر إلى مرحلتين منفصلتين (الحصول على الرقم السري من جهة ثم الولوج إلى المنصة الإلكترونية للاستشارة الوطنية من جهة أخرى، مما جعل عملية المشاركة معقدة خاصة في غياب التفسير في بداية الاستشارة الوطنية وحتى الومضات التوضيحية القصيرة والرسائل النصية القصيرة التي كانت تصل للمواطنين لم تكن كافية لتوضيح وتيسير طريقة المشاركة.
-غياب خطة اتصالية واضحة للدعاية للاستشارة والتعريف بها والإحساس بأهمية المشاركة فيها وعدم رصد ميزانية لذلك رغم أن الأمر الحكومي لسنة 2018 المتعلق بتنظيم الاستشارات العمومية ينص في فصله الخامس على ما يلي "يتعين على الهياكل المعنية تأمين التكوين اللازم لأعوانها في مجال الاستشارات العمومية وتخصيص الموارد الضرورية لتنظيمها".
-غياب خطة عمل دقيقة على مستوى حكومي وبقي الأمر محصوراً على مستوى وزارتي الشباب والتكنولوجيا وتحرك باقي الوزارات نسبياً في الأسبوعين الأخيرين.
-حصر الاستشارة في الجهة المبادرة بها، أي كونها مبادرة الدولة التونسية، خلق ردة فعل عكسية اتجهت نحو العزوف عن المشاركة في الاستشارة لتواصل القطيعة بين المواطنين وأجهزة الدولة. كان من الضروري وجود قناة تواصل مدنية يقودها المجتمع المدني لتقريب الاستشارة من المواطنين.
-قلة المشاركات من الشباب من 20 إلى 29 سنة رغم أن الاستشارة الإلكترونية توجهت بالأساس إلى الشباب وسعت لمخاطبتهم من خلال استعمال التكنولوجيا الحديثة. يمكن أن نرجع تدني مشاركة هذه الفئة العمرية إلى أن أدوات التواصل مع الشباب لجلب انتباهه وإقناعه بالمشاركة كانت تقليدية ورغم أن الاستشارة موجهة أساساً للشباب إلا أنها لم تصل إليهم عبر آلياتهم على الأقل قبل تزايد عدد المشاركات في الأسبوعين الأخيرين.
-تنامي الدعوات لمقاطعة الاستشارة من المعارضين، لمسار 25 يوليو، والنخب والفاعلين السياسيين والمدنيين الذين لم يجدوا أنفسهم في تجربة الاستشارة، واعتبروا استهداف حوار الشعب مباشرة إقصاء لهم من المشهد السياسي، بل تطور الأمر ربما لاعتبار الاستشارة ليست إلا وسيلة للسطو على علوية وقيادة الفاعلين الكلاسيكيين في العملية السياسية واعتداء على "نخبوية" الإصلاح السياسي، لذلك اعتبرت الاستشارة في نظرهم وسيلة للقضاء على كينونة الأحزاب والأجسام الوسيطة وربط المسألة بالترويج، لأن الاستشارة وغيرها من الإجراءات ليست إلا تمريراً لمشروع الرئيس والاستشارة هي بداية ما يريده الرئيس، من هذا المنطلق وحسب زعمهم، هي غطاء لتمكين الرئيس من القضاء على الأحزاب والنخب (وفي رواية أخرى شيطنة النخب وتوسيع الهوة بينها وبين الشعب تحت مسمى "الشعبوية".
-مقاطعة الاستشارة كذلك جاءت قبل بداية الاستشارة من خلال إسقاط رفض ما قبل الاستشارة على الاستشارة في تجسيد واضح لمناهضة الأمر الرئاسي 117 الصادر في سبتمبر2021 وما تمخض عنه من إجراءات (يمكن تلخيص ذلك فيما اصطلح عليه بـ"مع 25 يوليو ولكن."
-سوء التعاطي الإعلامي بصفة عامة مع الاستشارة، تراوح هذا التعاطي بين المقاطعة وعدم خلق مادة إعلامية تعمق النقاش حول الاستشارة الوطنية وتذلل الضعف الاتصالي المرتبط بالاستشارة في حد ذاتها فكان التعاطي في مجمله "سطحياً" ظرفياً خالياً من خلق البدائل رافضاً لتبني الاستشارة على أنها بداية حوار وطني بوصلته الشعب. إن التعاطي مع هكذا حدث بالحياد الذي يمكن أن نقول عنه سلبياً هو امتداد للهوة التي ما فتئت تتوسع بين المواطنين والإعلام بصفة عامة.
-تزامن الاستشارة مع ظرفية اقتصادية واجتماعية صعبة في البلاد مما جعل الجانب الاقتصادي يستحوذ على اهتمام المواطنين وكان لزاماً اعتماد خطاب رسمي تطميني فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي بصفة خاصة.
نقاط القوة في الاستشارة:
- يمكن اعتبار الاستشارة بداية لتأسيس ثقافة مشاركة الشعب في اتخاذ القرار السياسي وتحديد أولويات السياسات العامة في الدولة وكل النقد الموجه للاستشارة يمكن البناء عليه لتطوير فكرة الاستشارة وتدعيم الديمقراطية التشاركية باستعمال التكنولوجيا الحديثة في تونس.
-إذا ما اعتبرنا المعيار الكمي فقط فيما يتعلق بالمحور السياسي والانتخابي (نسبة المشاركة في المحور الأول كانت الأعلى وهو دليل على انشغال الناس بالإصلاحات السياسية والقانونية) لأن مخرجاته ستكون أساساً لعمل لجنة الإصلاحات والاستفتاء فيما بعد، فإنه ومن ناحية نوعية وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار مشاركة المواطنين في المحاور الأخرى وتغطية الأسئلة لكافة ولايات الجمهورية وحتى خارج تونس وتطرق الأسئلة لجوانب مختلفة من المعيشي اليومي، فإن أكثر من نصف مليون مشاركة رقم كاف لمعرفة التوجهات العامة والاستئناس بها، خاصة أن القرارات المتعلقة بالتغييرات الدستورية الجوهرية لن تمر دون تمريرها على الاستفتاء. حتى على مستوى التجارب المقارنة، فرنسا مثلاً، لم يتجاوز عدد المشاركين في الاستشارة 150 ألفاً.
- باحتساب المشاركات بالنسبة إلى عدد السكان، نجد تصدر المناطق الداخلية (سليانة، الكاف، باجة، سيدي بوزيد) نسب المشاركة، وهو ما يدل على إرادة هذه الجهات التغيير رغم واقعها الاقتصادي الصعب وإصرارها على المشاركة في تغيير مصيرها وثقتها في مسار الاستشارة و25 يوليو.
- من أكثر النقاط المضيئة للاستشارة -بالنسبة إلي- اقتران الاستشارة الوطنية ببروز حملات تطوعية ذات طابع توعوي وتيسيري. هذه الحملات ظهرت بصفة تلقائية وجمعت عدداً كبيراً من الشباب المتطوع (الذي ساهم في الارتفاع الملحوظ لعدد المشاركات) إلى جانب منظمات وجمعيات المجتمع المدني في الجهات. وإن كانت الحملة الرسمية المرصودة للاستشارة الوطنية ضعيفة، فإن العمل الميداني نجح في قلب الموازين، خاصة في ظل ضعف الإمكانيات والاقتصار على تطوع الشباب في كل الجهات، والذي أطلق على نفسه تسمية "متطوعون من أجل الاستشارة الوطنية"، وسرعان ما انضم إليه العديد من الجمعيات والمنظمات والمبادرات المواطنية وخلق نواة تنظمت دون رصد ميزانية محددة، وتوسع العمل الميداني اليومي في كامل معتمديات الجمهورية، فشاهدنا الخيام التوعوية في الأسواق الأسبوعية والمنشآت والفضاءات العامة والأحياء. وتبلور العمل الميداني التطوعي بانخراط الولاة من خلال الإشراف والمعتمدين والعمد الذين كانوا حاضرين كذلك في عملية تيسير المشاركة في الاستشارة. كان هناك مد تضامني تطوعي ذكرنا بالمجهودات التي تظافرت لإنجاح أيام التلقيح المفتوحة. وفي نفس السياق شهد آخر أسبوعين تقريباً تكثيفاً للأيام الوطنية من أجل الاستشارة الوطنية. كانت هناك العديد من المبادرات والاقتراحات لتطوير العمل ويمكن ذكر التجربة النموذجية التي قام بها المتطوعون من أجل الاستشارة بالشراكة مع جمعية إبصار لذوي الإعاقة البصرية تحت إشراف ولاية بن عروس، وتمثلت التجربة في التعريف بالاستشارة الوطنية لذوي الإعاقة البصرية، وتوزيع نسخ من محتوى الاستشارة بلغة البرايل على تلاميذ معهد المكفوفين ببئر القصعة، قصد تمكينهم من التعرف على محتوى الاستشارة في إطار حقهم في النفاذ إلى المعلومة مع تصوير فيديو لقراءة كل محاور الاستشارة الوطنية مرفقاً بلغة الإشارة لتمكين ذوي الإعاقة البصرية والسمعية من معرفة محتوى الاستشارة الوطنية.
- مهما يكن من أمر، سلط العمل الميداني الضوء على مجموعة المبادئ والنقاط الإيجابية من قبيل فكرة التطوع وما تحمله هذه الفكرة من نبل، ظهور المجتمع المدني والأهلي والمبادرات المواطنية أو ما يمكن تسميته بـ"حركات القرب المدنية" كفاعل أساسي في العملية السياسية وكطرف فاعل في إدارة الأزمات في البلاد، خلق نوعاً من الإعلام البديل الذي تزامن مع العمل الميداني في إطار خلق المحتوى للتعريف بالاستشارة الوطنية وإنشاء صفحات وفرق على وسائل التواصل الاجتماعي تقوم بتجميع صور وفيديوهات العمل الميداني وصنع محتوى مختلف عن محتوى وسائل الإعلام الكلاسيكية بطريقة تتماشى مع ما يحبذه الشباب، خاصة أن هذه الحملات الاتصالية قام بها شباب متطوعون.
ماذا بعد الاستشارة الوطنية؟
بطريقة عملية ملموسة، وبما أن الاستشارة أولى حلقات مسار الإصلاح والبناء ومنطقياً، ما بعد الاستشارة تأتي بقية مراحل خارطة الطريق من استفتاء شعبي سيمارس فيه الشعب سيادته بإبداء رأيه حول الإصلاحات الدستورية والسياسية الجوهرية في الدولة. وقد نصّ دستور 2014 على نوعين من الاستفتاء، وهما الاستفتاء التشريعي الاختياري حول مشاريع القوانين المتعلقة بالموافقة على المعاهدات أو بالحريات وحقوق الإنسان أو بالأحوال الشخصية والاستفتاء الدستوري، وهو استفتاء تصديقي اختياري حول مشروع تعديل الدستور. تنتهي المرحلة بالانتخابات التشريعية وفق قانون انتخابي جديد. أردت هنا التأكيد على مرحلة التأليف بين مخرجات الاستشارة الوطنية من خلال لجنة إصلاحات تضم مختصين في القانون والاقتصاد وعلم الاجتماع، وكلما اتسعت ميادين الاختصاص صلب اللجنة كلما كانت مقاربة الإصلاح أشمل.
أردت التوقف قليلاً عند هذه المرحلة وأمام التخوفات من أعضاء اللجنة وانتماءاتهم وتعييناتهم، من وجهة نظري، مرحلة عمل اللجنة هي امتداد للاستشارة الوطنية وإن اقتصرت الاستشارة الوطنية على المواطنين التونسيين داخل وخارج الجمهورية، فإن لجنة الإصلاحات ستوسع نقاشاتها وتنفتح على التحاور والنقاش مع مختلف القوى والمنظمات الوطنية والمجتمع المدني، وبذلك تنطلق عملية الحوار من المواطنين الذين يحددون التوجهات العامة التي سيدور حولها النقاش. لذلك، نجاح الاستشارة الوطنية فعلاً مرتبط بالتأليف الجيد والتوليف بين مختلف الرؤى في المشهد السياسي والنسيج المجتمعي التونسي، وهو العمل الذي لا بد أن تقوم به اللجنة بإتقان لضمان المرور السلس للاستفتاء، ومن ثمة الانتخابات التشريعية والخروج بذلك من مرحلة الاستثناء والمرور إلى السير العادي للمؤسسات الدستورية للدولة، ولم أقل هنا العودة إلى السير العادي لأن السير العادي كان معيباً مشوهاً ويستوجب الإصلاح لا مجرد العودة إليه باعتبار أن الخطر الداهم داخلي وليس عنصراً خارجياً.
في نهاية الأمر وكتجربة أولى، كانت الاستشارة الوطنية على هناتها تجربة مهمة وإن ارتبط وجودها بحالة الاستثناء وبأزمة سياسية حادة تعيشها تونس وبمسار ديمقراطي، لم يكن ديمقراطياً في حد ذاته، حتى نمر إلى تأسيس دولة القانون والمؤسسات. كل محاولات النقد للاستشارة منطقية ولا بد من البناء عليها لترسيخ ثقافة استشارة الشعب فيما يتعلق بالشأن العام أو حتى باقتراح مشاريع قوانين وفق ضوابط محددة. أرى أنه آن الأوان للتنصيص عليها في الدستور بعد تعديله والتفكير في تحديد الإجراءات الملائمة والإطار القانوني اللازم لتطبيق وتوسيع آليات الديمقراطية التشاركية على مستوى وطني لا الاقتصار على المستوى المحلي كما كان معمولاً به وفق التشريعات المتمخضة عن دستور 2014.
ليفانت - بثينة بن كريديس
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!