-
الانعتاق من تصورات الغرب حول سوريا (مفهوم التطرف مثالاً)
لا تترك الأحداث المتعاقبة بصورة سريعة، مجالاً للبحث في الكثير من المفردات التي أفرزتها الحرب في الآونة الأخيرة، ونجد أنفسنا ليس فقط منقادين بالشعارات والتصورات الثورية وحدها، بل أصبحنا نتأرجح كأوراق الخريف مع ما يصفنا به الآخرون الغربيون كون الكثير منّا يعتقد بأنهم، ولا بد، على صواب، فهم أبناء الدول المتطورة التي اختبرت الأمم شرقاً وغرباً استعماراً واستعبَدوا سكان المستعمرات لمدة قرون وبذلك كانوا المصدر الأساسي لفهم الذات الإنسانية من أوسع أبوابها.
يبدو أننا، كسوريين، لا تتعرض أجسادنا وحسب للقتل، بل تتعدى إلى عمق وعينا بذواتنا وبالآخرين وببلدنا، لدرجة لم يبقى لنا رأي أو تصور حول ما يحدث، سوى التوقف عند الأحداث اليومية هنا وهناك، وغالباً ما تكون كتاباتنا عبارة عن مواقف مسبقة خاوية من البعد الفكري ومشبعة بالانفعالات الذاتية والجمعية. كيف يمكن الغوص إلى الأعماق أكثر من أجل استجلاء بعض الحقائق التي تتجاوز الحرب ولا تهملها في الوقت نفسه، بل تكون ما فوق الحرب؟.
بالنسبة لي أجدني وجهاً لوجه مع التفسيرات والمصطلحات الغربية حول النزاعات والسلام وتصنيف المجموعات، وتبدو لي أنها اصطلاحات ومفاهيم برجوازية مترهلة قد تشكلت في أروقة بالغة الرفاهية والكسل، لأنهم يتعاملون مع الشعوب وقضاياها كونها سوق أولاً، وثانياً كونها حقل تجارب للانفعالات البشرية، وقد اختبروها قبلاً في العراق، والآن في سوريا. من تلك المصطلحات التي بتنا نخاف منها لدرجة كبيرة، هو مصطلح "التطرّف" الذي تحول الى اخطبوط تزداد ازرعه يوماً بيوم كي تمسك بكل من يحاول التمسك بحقيقة أو رأي ما وإن لم يحمل بَلطة مدّماة في يده.
إن البحث في هذا المصطلح على الساحة السورية، دون التوسع باتجاه متطرفي الشعوب الأخرى، لهو من أكثر الضرورات الثورية كونها تتعلق بتصنيف اندفاعتنا وفهم ذواتنا أولاً والذات الجمعية ثانياً وكذلك فهم الانحرافات التي تُحدثها الدول المتدخلة في الحرب السورية. قد بلغت الضرورة حداً بالغ الجدية والحَرج، لأننا بتنا نخاف مما نقوله أو نكتبه معتقدين بأن الآخرين الغربيين منهم وحيواناتهم الفكرية السورية والشرقية الأليفة، قد يوصموننا بالتطرف فيما ندعوا إليه، وبذلك يتناسون أن التطرّف في الفكر والفلسفة كان سببا لتغيير الحياة على مرّ العصور، وأولئك المتطرفين الأوائل كانوا شهداء فكر متطرّف بامتياز، ولعل الشهيد القديس كوبرنيكوس هو خير مثال على ذلك.
في الوقت الحالي، بعد ثمان سنوات من الحرب، وعدد لا يحصى من الضحايا البشر وما يزيد عليها من ضحايا القيم، نجد أنفسنا واقفين أمام جرف حاد الانحدار في كلّ اتجاه، ولا سبيل إلى الخلاص سوى خلق جسر فوق الهاوية، وهو جسر لا يمكن تشييده باللقاءات التشاورية أو عمل المنظمات المدنية، بل بالمطرقة وحدها، تلك المطرقة الفكرية والفنية التي لا يمكنها أن تنحاز إلا إلى الإنسان السوري، وتربط مصيره بزمن لا متناهي وليس فقط بالزمن الثوري وغاياته، وبذلك تحرره من أوهام وحقائق الدم النبيل في هذا الطرف وذاك. وأصحاب المطرقة هؤلاء، سيوصمون بالمتطرفين فيما يدعون إليه ولا بد، وأن لم يوصموا بذلك فلا خير فيهم وقد تحولوا إلى دمى في يد انفعالاتهم الثورية وبذلك لن يضيفوا سوى المزيد من الخِرَق الأفكار إلى الساحة السورية التي لا ينقصها أشلاء فكرية إلى جانب أشلاء الجثث.
تحتاج سورية إلى متطرفين يُعرّون الحقائق التي يحيا عليها الناس منذ سنوات، وكذلك التوقف عند التدخلات الفكرية الغربية وتصوراتهم حول الواقع السوري، من خلال إعادة صياغة المصطلحات والمفاهيم التي ينشروها على الدوام ويحولوننا بها إلى كائنات لا إرادة لها ولا تعي ما يحدث حولها وليس لديها القدرة في إحداث أي تغيير. النظرة الغربية إلى السوريين عموماً وقضاياهم وربما إلى العالم الثالث كله لا تختلف عن نظرتهم التي شكلوها في بداية عهود الاستعمار وقد صنفوا البشر وفق مستويين (الأوروبي، والبدائي).
إن توقفنا عند معالجة مفهوم التطرّف الفكري عند الجانب السلبي منه، أي المتضمن أذية الآخر جسدياً أو معنوياً..إلخ، نكون قد ظلمنا أسياد التطرف الفكري والفلسفي ممن وهبوا الإنسان عناقيد الحضارة بنتاجاتهم وأسئلتهم الكونية، وهم بمعظمهم كانوا متطرّفين فيما يطرحون في أزمنة حيواتهم، ولا يزالون منارات للعقل ويدفعون بالمزيد من الأفراد إلى أطراف الحدث أو أقصاه من أجل رؤية وتلمّس الحقائق بجلاءٍ. فقط نحن في الشرق نجد أنفسنا عرضة لتهمة التطرف في أي حين، ونكتشف في نقاش ما مع أجنبي- غربي أننا، وفق رؤيته، متعصبون للعرق، فقط لأن أحدنا سأل فلانا "ملامحك لا توحي أنك إنلكيزي، تبدو مصرياً أكثر"، ويعدّ هذا التدخّل تمييزاً عرقياً برأيهم، لكن رؤيتهم لنا على هذا الأساس لا تعتبر تمييزاً عرقياً، وأقصد طريقة تفسيرهم لثقافات الشعوب وتصنيفها كتمييز عرقي أو تعصب.
يا للأسف، من بين مئات الكتب والمقالات المنشورة لن تجد أحدهم ممن يتوقف عند التطرف من منظور إيجابي في الحياة، وكأنّ كلّ من بذلوا حياتهم قبلاً من أجل فكرة، وواجهوا الكنائس والجوامع والحكومات، كانوا حمقى أو أغبياء، وكان عليهم أن ينقادوا، كما نفعل، مع روح العصر ونردد صدى ما يتردّد وحسب. مشكلتنا هي الانقياد الأعمى والانفعالي وراء الصيغ والقوالب السياسية والفكرية الجاهزة ورفض ما عداها من الأفكار التي تحوّل تركيزنا إلى السقف المتهدم فوق رؤوسنا أو توجه انفعالاتنا إلى ما يتجاوز الحدث بذاته، أي إلى ما بعد الحدث أو نحو مساراته غير الجليّة.
معظم الناس متطرفون في الوقت الحالي ومتمسكون بأفكار وتصورات سابقة ومعدّة سلفا ويمكنهم انطلاقاً منها أن يتحولوا إلى وحوش أو الى ملائكة دون أن يبذلوا مقداراً ضئيلاً من التفكير، ومما لا شك فيه، لا أعني سواد الناس من المتطرفين الجُهلة حينما أردد مقولة ويلم بليك "التطرّف هو وحده الحياة، أنه النعيم الأبدي". ألا ما أحوجنا إلى متطرفين على جميع الأصعدة في رؤاهم وأطروحاتهم الفكرية والسياسية الخيّرة، نحتاج إليهم بصورة تفوق حاجتنا إلى الرصاص كي نحدث التغيير.
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!