-
البيوت السكنية في دمشق- سجن لا مسكن- عن الفوضى والكآبة والرتابة في سَكنها وسُكانها
ليفانت : ميرنا الرشيد
اليوم هو الثالث من تشرين الثاني من هذا العام، والساعة هي الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، استيقظتُ على صوت صادح للموسيقا والغناء القادمين من المطعم المواجه لبيتي في دمشق القديمة، المنطقة المدرجة على لائحة اليونيسكو للتراث العالمي، والشاهدة الحيّة على حضارات إنسانية وأحداث متعاقبة منذ ثمانية آلاف عام قبل الآن. لا يشير التاريخ هنا إلى استثنائية هذا اليوم وفرادته عن غيره، فحالة الإزعاج هذه مكررة، يتبعها عدم قدرة على النوم مجدداً، وانغماس العقل في أفكار مشتتة اعتاد على استحضارها لملء الوقت العبثي حتى سماع أذان الجامع الأموي عند طلوع الفجر.
قد يتبادر إلى الأذهان سؤال عن الأسباب التي أباحت استخدام الفضاءات بمعناها الشمولي للأماكن والأحياز 1 استخداماً عشوائياً مزعجاً بعيداً عن الإتقان، يهدف إلى المنفعة الاستهلاكية التي تطيح بالأساسات الحضارية، ولا تعبأ بالمفاهيم الإنسانية، أو ربما قد يكون الاستفسار عمّا يمكن تقديمه من حلول لتصحيح الخلل الذي نشأ عن توظيف الأفراد للفضاءات العامة بمعزل عن الراحة الذاتية للمحيط، ومراعاة الفراغات بين الخاص والعام، إلاّ أن مشاهدة ورصد هذا الأمر لديّ لا يأتيان على أسئلة كهذه، فالتحولات الاجتماعية والاقتصادية التي طرأت، تشير بوضوح- بعيداً عن التحليل التقليدي للسلطة السياسية وآثارها- إلى العلاقة الوطيدة بين الإنسان والمكان، مترافقَين مع الزمن الذي يبدو أننا عالقون- سيكولوجياً- في جزئيته الماضية فقط، وإن نتحرك معه- عملياً فقط- ضمن مساره المتقدم.
مشهد صباحي مكرر
عند السادسة صباحاً، وقبل شروق الشمس بقليل، بعد أن تبدأ السماء بالكشف التدريجي عن ألوانها، من الأسود الحالك إلى تفرعات اللون الأزرق، أخرجُ إلى الشوارع المعدومة من الإنارة. الحركة الطفيفة في هذا الوقت تتيح سماع صوت العصافير ورؤية الخفافيـــــش الليلية، مع إمكانية رصد الكيانات الجسدية الواقفة في الطابور عند فرن الخبز المجاور لقناة تورا المتفرعة عن نهر بردى من جهة باب توما، وقد أصبحت حكايات فيضانه أيام الشتاء والتجمعات عند فروعه وضفافها مجرد ذكريات ماضية، تماماً مثلما أصبحت عمارة دمشق الإغريقية والرومانية ثم ما تلاها في العهود البيزنطية والإسلامية والعثمانية.
تعود بي هذه الطوابير التي باتت مشهداً مألوفاً في دمشق خلال الحرب الأخيرة وما خلّفته من عجز اقتصادي، إلى مشهد اصطفافنا اليومي في أرتال متوازية في باحات المدارس لتأدية التحية الصباحية، عندما كنّا طلاباً وطالبات نرتدي الزيّ الخاكي المعروف بالعسكري، ونقف ملتصقين بعضنا ببعض، لا يفصل بين أجسادنا سوى سنتمترات قليلة. كانت هذه المسافة مخصصة لتموضع كل منّا من دون تذمر أو حراك ظاهرين، بخلاف ما نشهده في طوابير اليوم، حيث الصراخ والعراك باديان للعيان، ومسموعان من مسافة قد لا يبدو منها ما يحدث مثيراً أو واضحاً للمارة من هناك، إذ يكفي تنبيه صوتي حتى يدرك المرء أن ثمة مجموعة من النساء والرجال، ينحشر بينهم في بعض الأحيان صبيان وبنات، يحجزون بأجسادهم على اختلاف أحجامها وما تدل عليها، مسافة لا تتعدى خمسة أو ستة أمتار، وينتظرون لساعات من أجل الحصول على أرغفة الخبز.
لقد تدهور العالم الخارجي لدمشق في هذه المرحلة، وبات مكتظاً بالناس، وهذا الأمر لم يعد يتوقف عليها وحسب، بل امتد إلى ريفها والبلدات المحيطة بها، حيث لا مساحة فضفاضة، ولا مكاناً متسعاً، ولا زاوية فارغة من اتكاء أحدهم أو اصطفاف سيارة أو أكياس القمامة. هكذا أصبح الحيز الخاص فيها، وكذلك الفضاء العام نادرَين إلى حد ما، وانتقل الضيق في المساحة إلى البيوت والشقق السكنية، الأمر الذي بتنا نرى نتائجه في السلوكيات اليومية، «لأنه مع غياب المساحة الخارجية، تنشأ مشكلات مختلفة من العنف، والشعور بالضغط الذي لا مفر منه 2 »، بسبب محاصرة الأجساد بعضها بعضاً، «وعندما يعيش شخص بالقرب من شخص آخر، ولا يكون هناك مساحة كافية لكل منهما، يتسلل الشعور بالضيق والاحتجاز إلى الكينونة الداخلية، ولن يكون هناك شعور بالحرية في هذه الحياة 3 ». فهذا الفضاء النفسي المرتبك، ما هو إلاّ انعكاس للفوضى وعدم الانتظام والحمل الزائد للفضاء المادي الخارجي.
ربما يبدو من الترف مناقشة العمران السكني في دمشق وحراك الجسد بداخله في مرحلة كهذه، يحاصرها العوز والفقر والتباين المادي الصارخ بعد سنوات طويلة من الحرب، قُدر لها خلالها أن تتكبد- بالإضافة إلى أعبائها السابقة- أعباء نزوح عدد كبير من سكان المدن السورية الأخرى، فازداد الضغط السكاني فيها، وتمددت العشوائيات أكثر مما كانت عليه، ونتج عن ذلك مدينة متخبطة في هويتها وطابعها العام، تطير أسراب الطيور في سمائها بتناغم تام مشكّلة لوحة راقصة، إذ يحفظ كل طير فيها حيزه الخاص، فيما يتزاحم سكانها على الأرض على موطئٍ لقدم واحدة.
حصار الأبنية
في بيت مؤلف من ثلاث غرف صغيرة وحمام ومطبخ متداخلَين ضمن منطقة سكن عشوائية في حي المزة جبل بدمشق الذي يطغى على أبنيته لون الإسمنت، يعيش عابد- شاب في منتصف العشرينيات من عمره- مع عائلته المؤلفة من والديه وشقيقين وأخت واحدة، ويعمل مصوراً فوتوغرافياً. يحظى عابد بغرفة مستقلة في البيت الضيق المنعزل عن الشمس بسبب التكتل السكني المحيط به، أثاثها خشبي متواضع، ولها نافذة تطل على غرف الجيران وخصوصياتهم مثلما هم يُطلون عليه وعلى ما يفعله هو وعائلته. الكُل في نمط سكن كهذا في مرمى نظر الكُل، لا أحد مستثنى من مراقبة تحركات الآخرين حوله، على الرغم من أنهم أو ربما بعضهم، يرغبون بمساحة خاصة أو فضاء واسع، لا تخترقهما الأصوات والنظرات والتكهنات.
«ربما الآثار النفسية واضحة بالنسبة إليّ أكثر من التبعات الجسدية، فالاعتياد على المساحة الضيقة المحصورة جعلني أفقد القدرة على التعبير الجسدي». جاءت هذه العبارات من عابد، عندما كان ينظر من الشباك إلى شخص آخر يقف في شرفة بيته المجاور. لم يزعجه الأمر بقدر ما أربكه التفسير، فحضور شخص غريب في المساحة النظرية ذاتها جلب معه تفسيرات عديدة. «ربما هذا الشخص يراقبني، وربما لا، لا أعرف، ومن المحتمل أنه يظنني أراقبه، إن الأمر مربك لدرجةٍ جعلتني أغلق شرفة بيتنا كي تشعر أمي بالارتياح وهي تنشر الغسيل».
الجسد كما هو في الواقع غامض بالنسبة إلينا، والتفكير فيه لا يجلب إلاّ مزيداً من التشتت وعدم اليقين، وهذا ما يجعلنا نعبّر في أغلب الأحيان عن البعد النفسي الداخلي لقلة إنصاتنا لجسدنا وندرة اتصالنا به، وما يطرأ عليه من تبدلات لا نشعر بها ونلاحظها إلاّ عند التقدم بالعمر أو في حالة مرضية أو عند الإصابة بالعجز، فالجسد هو أقل مما نظن به، وأبعد مما نعرف عنه، إنه ما نحن عليه إلاّ أنه ليس كذلك4.
فهم الكاتب الأروغواني إدوارد غاليانو، مشكلة تواصلنا مع أجسادنا، وعبّر عن مواقفنا غير الصحية وغير الطبيعية السائدة في المجتمعين الديني والعلماني في قصيدة جاءت في كتابه الكلمات السائرة5، «تقول الكنيسة: الجسد خطيئة، ويقول العِلم: الجسد آلة، وتقول الدعاية: الجسد مهنة، ويقول الجسد: أنا احتفال».
تدل عبارات غاليانو على أن ثمة سلطة تستولي على الجسد، وهي تأتي بأسماء وأشكال مختلفة، وتندرج تحت مصطلح «القوة الحيوية6» الذي صاغه ميشيل فوكو للإشارة إلى الطرق التي تتجلى بها السلطة في شكل ممارسات روتينية يومية، ينخرط الأفراد من خلالها في المراقبة الذاتية والانضباط الذاتي. السلطة تركز على الجسد بصفته موقعاً للاستعباد، وتخلق الأنظمة المهيمنة للممارسات الاجتماعية في النهاية «جسداً طيّعاً»، لأن الممارسات التي يتبناها كل منّا تؤدي بالتالي إلى إخضاع أنفسنا، وهذا الإخضاع قد يأتي في بعض الأحيان بصيغة مقاوِمة. في حالة كهذه، ليس بالضرورة أن تلجأ السلطة إلى مواجهة مباشرة مع الفرد وجسده، فهذا التكتيك غير ناجح، لذلك تتسلل إليه بأقنية ناعمة غير محسوسة مباشرة، ومن هنا جاء حصار والدة عابد بمزيد من الجدران على الشرفة من منطلقٍ رافضٍ لتعدي الآخر على المساحة الشخصية، لكنّ هذا الفعل مثّل في الوقت نفسه إذعاناً لسلطة المجتمع على جسدٍ أصبح مضطرباً لشدة حصاره وكثرة الإملاءات عليه.
بعض الدلالات اللغوية
تدل كلمة السَّكن 7 في اللغة العربية إلى كل ما نسكن إليه ونستأنس به، ومن معانيها أيضاً أهل الدار وسكّانها، وعندما نتحدث عن الـــسَّكن، فإننا نشير إلى نشاط يؤديه الإنسان إلى جانب نشاطات أخرى، ولكوننا نشغل الأرض هذا يعني أننا نسكن فيها، لكن لا ينبغي لهذا السكن أن يكون مجرد ركن اعتباطي، فثمة إحساس يتكون عندما ندخل إلى مكان ما، وعندما نصغي إلى ما يخبرنا به، يمكننا أن نستنتج معلومات عن استجابة الإنسان للمكان، إن بالارتياح أو عدمه، وإن بازدياد الإنتاجية والتفاعل أو انخفاضهما، وإن بالسعادة أو الاضطراب، وبما أننا لاحصل على السكن إلا عن طريق البناء، لا يمكننا أن نعتبر كل بناء مسكناً، فنحن نقضي في أماكن العمل والدراسة وقتاً لا بأس به، ومع ذلك لا نأوي إليها.
في المحاضرة التي ألقاها الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر عام 1951، وكانت بعنوان «البناء، المسكن، التفكير»، أوضح أننا لا نسكن لأننا بنينا، بل إننا بنينا وما زلنا نبني لأننا نسكن، ثم عرّج إلى ما ينبغي أن يكون عليه جوهر المسكن، فهذا الأمر يرتبط بنوع معين من التفكير، ويمكن اعتبار اللغة المقياس الذي نقيس به طبيعة المسكن والبناء.
الكلمة الساكسونية القديمة وون8، والكلمة القوطية ونيان9، تشيران إلى المعنى الذي تشير إليه الكلمة الإنجليزية القديمة باون10، وهذه الكلمات الثلاث تعني المسكن والبقاء في المكان، لكن الكلمة القوطية ونيان تدل بشكل أكثر وضوحاً كيف ينبغي اختبار هذا البقاء، وهو أن نظل بسلام، وكلمة السلام تحمل معها الارتياح النفسي والأمان والسلامة من الأذى، وغيابها يفرض صراعاً داخلياً وعيشاً مضطرباً. من أجل أن يتحقق العيش بسلام، فهذا الأمر مقرون بأن يُترك كل شيء على حريته وطبيعته ضمن المجال الحر، ويمكن اعتبار هذا المجال على أنه الخلو والفراغ، ولا يمكن تحقيقه إلا بالحرية من الداخل والخارج.
ناقش الحكيم الهندي جدّو كريشنامورتي مسألة الفراغ بالتركيز على بعدها الداخلي، ذلك أن المجال الخارجي يزداد ازدحاماً، وتقل فيه المساحة شيئاً فشيئاً، ومن المحتمل أنه مع عدم توفر الاتساع الخارجي أن يتعدى الفرد على حيز لا يخصه، ويسطو على الطبيعة. إنَّ فهمَ هذا الأمر مرتبط برصد العقل البشري المزدحم بالأفكار والعقائد والأيديولوجيات والنظريات، ومثل هذا العقل المحبوس والمخنوق يلجأ إلى تكبيل وتعنيف نفسه، وبالتالي تكبيل وتعنيف الآخر.
ونستن تشرشل: نشكّل الأبنية وبعد ذلك تشكّلنا
بعد انتهاء زيارته لبلدة السلمية المحاطة بالسهول الواسعة في مدينة حماه، لم يستطع عابد المكوث في غرفة بيته بدمشق رغم التعب الذي كان يشعر به، فما إن أفرغ حقيبته، خرج مباشرة إلى الشارع بحثاً عن ذلك الاتساع الذي عايشه لأيام القليلة في بيت جده الريفي. هناك كان على صلة بالسماء التي لم تشوه اتساعها وزرقتها تلك الأبنية البنية اللون المصنوعة من الإسمنت، ولم يصبح تعداد السكان فيها حتى الآن عبئاً على الهواء والشجر والقطط السارحة بين البيوت المتباعدة، بخلاف دمشق التي أدى التحضر السريع فيها وغير المنضبط إلى تدمير غوطتها الخضراء والتجني على أصالتها، فضلاً عن الحرب التي أثرت على ما تبقى من هويتها المعمارية والبصرية، وزادت من العشوائية والفوضى في مساحاتها.
أدرك عابد أن السماء التي يشرد في أفقها من شباك غرفته المسوّر بالقضبان الحديدية، هي صورة باهتة عن تلك التي تَسابق مع سُحبها في السلمية، فالعيش في الأماكن الفسيحة والمشبعة بالغطاء الأخضر وحضور الطبيعة له تأثير إيجابي على الصحة النفسية والجسدية للأفراد، وحسب الفرضية التي اشتغلت عليها أليس كولمان، عالمة الجغرافية في جامعة كينغ كوليدج لندن، فإن اللوم في السلوك المعادي للمجتمع يرجع لتصميم العقارات الإسمنتية الحديثة التي تشكل بكتلها المرصوفة وأشكالها الطولية وألوانها الباهتة مسرحاً للاضطرابات الاجتماعية.
من المؤكد أن العلاقة المباشرة والسببية بين البيئة المبنية والسلوك البشري ليست أمراً جديداً، لكنها تتجلى بشكل واضح في العشوائيات والضواحي المنعزلة التي تأخذ فيها الأبنية شكل العلب الكبريتية المتراصة بعضها فوق بعض، يكون فيها التوسع العمراني غير مرن وغير إنساني، وينكر احتياجات الناس وتطلعاتهم.
صحيح أن الأبنية الإسمنتية الطولية تعتبر مؤشراً على الإقامة الفاخرة، إن بوصفها فنادق أو مقرات للعمل أو للسكن، لكن هذا النمط المعماري لم يكن هو القاعدة في دمشق، وما أتاحه هو نقص المساحة، كما أن كثيراً من المناطق التي بُنيت فيها هذه الأبنية، لم تُراعَ فيها معادلات الضوء واللون والشكل والتباعد، وما ينتج عنها من تأثير نفسي وجسدي على السكان، وتفاعلهم فيما بينهم، وهي بهذا الشكل تجسد بوضوح التمييز الطبقي والاجتماعي، وتكثر فيها البطالة والمشكلات الاجتماعية والجريمة.
لكنْ من عاصر دمشق في الخمسين سنة التي سبقت عام 2011، يعرف أنها شهدت جملة من العوامل فرضت ضغوطاً هائلة على المدينة، لم تستطع الجمعيات المعنية وفرق الدراسة والتخطيط التي تشكلت منذ ذلك الحين من حماية ملامحها العريقة. كان النمو السكاني المتسارع من أبرز تلك العوامل، إضافة إلى الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين الذي جلب معه موجات لجوء خلال فترات متعاقبة، أُضيف إلى ذلك هجرة سكان الأرياف إلى المدينة بحثاً عن الوظائف وحلّ معيشي أفضل، تبعه فيما بعد لجوء أعداد كبيرة من العراقيين نتيجة الغزو الأمريكي عام 2003.
كل ذلك كان سبباً في حشد ضغط على بنيتها التحتية، مع العلم أنه لا يمكن إغفال تقصير المؤسسات الحكومية المسؤولة عن وضع مخططات عمرانية وسكنية وأثرية تتناسب مع طابع المدينة وقِدمها التاريخي، فظهرت الآلة بكل عنفوانها في دمشق11، وبدأت المعاول تنهش قلبها، وامتدت صروح العمارة الغريبة إلى مركزها، وأصبحت الأحياء مغطاة بالزجاج والألمنيوم، وطغت حضارة البيتون المسلح والعمارة الاستهلاكية المستوردة على هدوء الحارات وعرائشها وخصوصيتها المفرطة.
يستحضر التعمق بالكتلة الخرسانية في مدينة دمشق تأملات بشكل المساحات وكيفية إشغالها، وحركة النقل داخل السور وفي المساحة العمرانية الممتدة خارجه، مع الإقرار بصعوبة الفصل بين ما آل إليه النسيج العمراني وبين السلوك الإنساني، فالسيارات والباصات تشغل الشوارع والأرصفة، وتتعدى على المساحات المخصصة للمشاة، كما أن سكانها الأصليين وغير الأصليين لم يكونوا عطوفين معها، وأساؤوا استعمال واستغلال الكثافة العقارية والتجارية والصناعية، وتفاقمت المخالفات في الإعمار والهدم، وأصبحت واجهات الأبنية مرصوفة بقطع أجهزة التكييف الخارجية، والسطوح مشغولة بالكامل بألواح الطاقة الشمسية والصحون اللاقطة وخزانات الماء والوقود، وفي هذا الصدد ظهر التكرار الرتيب والفوضى في مظهرها العام، فمات إحساسها الداخلي، وتبدد إحساس أهلها بها. لقد شكّلوا المدينة، فشكّلتهم بعد ذلك، ما جعلها تبدو صورة منعكسة عمن فيها؛ متعبة ومرتبكة ومترهلة وكئيبة.
هوية ضائعة
تعود جذور كراهية الأبنية الإسمنتية إلى ما تظهره من تركيز وصلابة طاغية وأحادية في الاتجاه، وهذا ما يجعل شاغليها غير معتادين عليها على الرغم من شيوعها. ومع أن مناطق السكن- وهي المدن والقرى بما تحويه من شوارع وأحياء وأزقة- تشكّل جزءاً لا يتجزأ من السكان، ففيها قصص الحرب والسلام، والشكل المعماري المعتادون على رؤيته، وصور التمثيل السياسي، ووجوه المارة المتفاعلة مع البيئة المحيطة، فإن هذه الأماكن في حالة تغير مستمر تبعاً لتغير المجتمعات وظروفها عبر الزمن، وبتغيّرها تختلف استجابة الناس وتلقيهم لها، ويتجلى هذا الاختلاف والتناقض بوضوح بين البيئة الحضرية والبيئة الريفية.
في المقاربة بين تينك البيئتين، يبدو أن الكفة ترجح لجهة البيئة الطبيعية الأكثر ملائمة نفسياً وجسدياً، إلا أنّ أم عامر- وهي سيدة في منتصف الستينيات من عمرها- لم تنسجم مع الجو الريفي، ولم يكن حلاً مرضياً لها الانتقال مع زوجها قبل ثلاثة أعوام من بناء سكني داخلي في دمشق إلى شقة صغيرة داخل عقار في قرية فيروزة بمدينة حمص. لقد شعرتْ بالرهاب من الخلاء، فهي تكره التغيير. «الصمت ورؤية السماء على اتساعها والمشي بين كثير من الأشجار، أعادوا إليّ مشاعر الخوف وعدم الأمان التي عشتها في فترة الحرب».
نشأت أم عامر في دمشق أواخر الخمسينيات ضمن نظام عمراني مختلف عن الحاليّ، عندما كانت المدينة ما تزال تتمتع ببعض من غطائها الأخضر وشوارعها العريضة وهدوئها اللطيف، وإلى الآن تذكر كيف شعرتْ بالضيق من مظهر البيئة القاسي، على الرغم من المناظر الطبيعية الغنية نسبياً والحديقة القريبة من بيتها، ولم تستطع «التخلص من الشعور بأن الأرصفة والطرقات والكتل السكنية كانت- في معظم الأوقات- باهتة الألوان، لكن ربما لم يكن الإسمنت سبب المشاعر المتضاربة»، فمعظم هذه المشكلات ترتبط بشكل مباشر أكثر «بضياع الهوية والمخزون التاريخي والأصالة المحلية لمدينة دمشق».
تجسد دمشق واقعاً تراكمياً بين الزمان والمكان، فداخل هذه المدينة حلقات متداخلة من الحضارات يصعب تفكيكها، ينبعث من خلالها الإحساس المكثف بالزمن. ومن أجل تكوين فهم واقعي عن هويتها، لابد من الاطلاع على الحضارات التي بنت بعضها فوق بعض طبقات من المكونات الثقافية والاجتماعية والروحية والمعمارية. لقد بدأت هويـتها بالضياع بســـبب خطأ تراكمـــي في البنية الزمانية والمـــكانية، أصبح فيها الشكل المشوه هو السائد، وعلى الرغم من المحاولات العديدة لإنقاذ قيمتها التاريخية القديمة روحياً ومادياً، إلا أنّ ذلك كان يتم بمعزل عن المسار الزمني، وفهم متطلباته وتبدلاته، ما جعل هويتها غائبة ومرتبكة وغير مفهومة.
يبدو الفارق في طابع المدينة بين الماضي والحاضر جلياً في الشعر، وليس أدل على ذلك من الأبيات التي نثرها نزار قباني في كثير من قصائده: «هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة، إنني لا أحاول رشوتكم بتشبيه بليغ، ولكن ثقوا أنني بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر، وإنما أظلم دارنا، والذين سكنوا دمشق، وتغلغلوا في حاراتها وزواريبها الضيقة، يعرفون كيف تفتح لهم الجنة ذراعيها من حيث لا ينتظرون». وعن دمشق الأنيقة التي باتت صورة جامدة في الذاكرة، عبّر محمود درويش في طوق الحمامة الدمشقي عن الشعرية في القصيدة والعمارة والتاريخ: «في دمشق تسير السماء على الطرقات القديمة حافية حافية، فما حاجة الشعراء إلى الوزن والوحي والقافية؟ في دمشق، يواصل فعل المضارع أشغاله الأمويّة: نمشي إلى غدنا واثقين من الشمس في أمسنا؟ نحن والأبدية سكان هذا البلد»!
ثمة وجهات نظر عديدة حول مفهوم هوية المدينة 12 ، وقد رُبطت بالبيئة المادية التي تعد من أهم العوامل المؤثرة على هوية المنطقة الحضرية، وما تتضمنه من مرافق، وما يخلفه المستخدمون من معانٍ، إضافة إلى أن الجانب الاجتماعي وأنماط الحياة الخاصة تضيف إلى هوية المدينة، ويمكن اعتبار الظواهر الطبيعية والمناخ من العوامل المؤثرة أيضاً. تتفاعل هذه العوامل بعضها مع بعض عبر الخط الزمني للأحداث، وقد عبّر المهندس المعماري والمخطط الحضري تشارلز كوريا عن تمازج هذه العوامل في تشكيل معالم المدينة وشكلها، «بأن الهوية ليست عنصراً يُعثر عليه، إنها عملية متتابعة. ونحن نطور هويتنا بالتفاعل مع مشكلاتنا وظروفنا، كما أن تاريخ الناس والمكان المسجَلَين بالطوب والملاط، وفي الأغاني والرقص والفنون، هو ما يمنح المدينة هويتها».
موجز تاريخي
ينتقد كثيرون من سكان دمشق مدينتهم بشدة، ومنهم من يعبّرون عن عدم حبهم لها، لكنهم في الوقت نفسه لا يجرؤون على مغادرتها والبعد عنها. إنهم لا يستطيعون التفكير بأنفسهم بمعزل عن ارتباطهم بنسيجها الاجتماعي وصخبها اليومي وحيويتها الدائمة. هذه المدينة التي ظهر اسمها على شكل «تـ. مسـ. قُ» على جدار معبد الكرنك في الأقصر بمصر، بين لائحة من أسماء المدن التي فتحها تحوتموس الثالث في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وقامت على الضفة الجنوبية لنهر بردى، كانت في البــداية قرية صغيرة تعتـــمد على الـــزراعة، تباين حالها بين فترات الازدهار والانحطاط، بدءاً من كونها حاضرة المملكة الآرامية في الألف الثاني قبل الميلاد، ثم دخول الآشوريين إليها وتدميرها، بعد ذلك استولى عليها الأخمينيون ثم اليونان والرومان والبيزنطيون والمسلمون، وصولاً إلى الحكم العثماني الذي دام أربعة قرون حتى الحرب العالمية الأولى عام 1918م.
أصبحت دمشق في عهد اليونان على اتصال وثيق بالثقافة اليونانية، وعرفت حينها نمط الشوارع المتعددة والمتقاطعة، وفي العهد الروماني صارت أقرب إلى المدن الرومانية شكلاً ومضموناً، وبدأت تنمو وفقاً لقواعد محددة، وطبقاً لتشريع مدروس تفرضه الإدارة البلدية، وبُني حولها السور بأبوابه السبعة، وأنشئت قناة جديدة لمياه الشرب النقية من نبع الفيجة الذي ما تزال تشرب منه المدينة إلى اليوم الحاضر. وعندما انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى شطرين غربي شرقي، كانت دمشق من نصيب الإمبراطورية البيزنطية الشرقية التي عُرفت بنظامها المعماري المليء بالزخارف والفسيفساء.
حدث التغيير في دمشق منذ الفترة الإسلامية في القرن السابع الميلادي، فتغيرت المظاهر الاجتماعية والاقتصادية والديمغرافية، وبرزت قيم عمرانية ذات فنون ومقاييس توافقت مع معايير الدين السائد، مما أدى إلى تحول كبير في البيئة الحضرية. وفي العهد العثماني، بدأت المدينة تتمدد خارج السور، وظهرت العديد من الأحياء الدمشقية، منها حي القصاع والصالحية والحلبوني والقنوات والميدان، وأنشئت كثير من المدارس والأسواق والخانات وخطان لحافلات الترامواي.
تميزت الدور الدمشقية في تلك الفترة بكونها مفتوحة نحو الداخل ومغلقة باتجاه الخارج، فاحترام الخصوصية وراحة أهل البيت كانت من السمات المعمارية قبل قرنين من الزمن، وكان أمراً ضرورياً أن تبعث الجدران المزخرفة بالزخارف النباتية والرسوم على الاطمئنان وحرية الحركة بداخلها، بدءاً من الدهليز الطويل وصولاً إلى الباحة المكشوفة والمضاءة بالشمس، التي تضم بحرة الماء المصممة من الحجر والمزينة بالفسيفساء أو الصدف وأشجار الليمون والنارنج والكباد وصولاً إلى الغرف الموزعة على طابقين.
وعلى الرغم من رحابة تلك البيوت واعتبارها ملتقى اجتماعياً للزوار وانبهار المؤرخين والمستكشفين بتناسق ألوانها وتوظيف الفراغات فيها، فهي بحسب وصف الكاتب والصحفي الأمريكي جورج ويليام كورتيس الذي زار دمشق عام 1852م، «جنة قائمة بحد ذاتها، إن مثل هذه الديار تبعث في المخيلة حكايات ألف ليلة وليلة»، إلا أن الجسد الذي شغلها عومل على أنه كيان مقيد، يتحرك وفق ارتباطه بالسياق العام وما فيه من تشريعات ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية، الأمر الذي أحدث تكيّفاً هائلاً في السلوك والممارسات، فحُبست المرأة بداخله، ومُنعت من الحركة في الحدود العامة، فيما ترك الفضاء الخارجي للرجل مع هيمنة سلطته على داخل البيت أيضاً.
هجر كثير من سكان دمشق البيوت الأثرية منذ الستينيات الماضية، وانتقلوا إلى المساكن الحديثة التي ظهرت مع بداية الانـــتداب الفرنسي، فاندثر جزء منها، وبُني مكانها أبنية إسمنتية طولية لا تتوافق مع العمران الأفقي فيها، أُجّر بعضــها لعــدة عائــلات دفعة واحدة، وأُهملت صيانتها، وتحول بعضها الآخر إلى مطاعم ومحامص مكسرات ومستودعات للصناعات المختلفة، شكّلت بمعظمها خطراً على النسيج العمراني للمدينة. كان سبب الهجران هو عدم قدرة أزقة المدينة القديمة الضيقة على استيعاب وسائل النقل الحديثة، فعرض الشوارع وحالتها الإنشائية كانت مخصصة للمارة فقط، والتنقل ونقل البضائع بواسطة الجِمال والأحصنة والحمير، كما أن طبيعة مواد البناء العضوية في البيوت الشامية تطلبت صيانة دائمة، وهذا الأمر شكّل عبئاً مادياً على سكانها، إضافة إلى شروط الترميم الدقيقة التي فرضت المحافظة على الطابع الأثري والتاريخي للبيوت.
في غمرة الانتقال إلى المساكن الحديثة، ومع غياب مخطط تنظيمي يوافق بين الحالة التاريخية والحاجة البشرية لهذه المدينة، بدأ البناء بالاعتماد على الذوق الفردي والمعرفة الشخصية والقدرة المادية والنزعة الاستهلاكية، فظهرت العشوائيات وتفرعت، وبدا السكان في فضاء معماري كهذا كأنهم غير فاعلين وغير خلاقين، ومنصاعين كلياً «للحتمية البيئية» 13 ، التي جادلت بأن جميع السلوكيات والأنشطة البشرية تخضع لسيطرة البيئة المادية، وبأنه ليس هناك أي دور للثقافة في تشكيل لغة البناء.
لقد ركزت الهندسة الحيوية على العلاقات بين العناصر الموجودة في الكون وحياة الإنسان، وتأثير هذه العلاقات على نوعية الحياة، مع التأكيد على دور الأشكال والألوان والأصوات لتحقيق التوازن في مستويات الطاقة والمشاعر والحالة المزاجية، ومع ذلك غاب عمن شكل ويشكل الفضاء العمراني في دمشق أهمية التفاعلات البيئية والبشرية في التكوين والتصميم المكاني، وما ينشأ عنها من تفاعل الأفراد مع المحيط وفيما بينهم، كما أنهم لم يفطنوا إطلاقاً إلى حضور الجسد بوصفه الكيان الرئيسي الذي وُجد المسكن من أجله، فاقتصر تمثيله على البنية التشريحية من لحم وعظام، وانعدم الحيز الخاص به، وذاب مع المحيط الجماعي المضطرب، وبات قلقاً وغاضباً ومرتبكاً، حاله حال الأبنية السكنية التي تفتقر إلى الهواء الطلق وأشعة الشمس وحبات المطر.
----------------------------------------------
1جمع كلمة حيّز، وتعني من الناحية اللغوية، المكان والامتداد والحدود التي يشغلها، وهو بحسب التعريف أيضاً المنطقة المحيطة بالفرد مباشرة التي تحدث فيها معظم تفاعلاته مع الآخرين، والحيز يتحرك مع الفرد متسعاً أو متقلصاً وفقاً للظروف المحيطة به. إن مفهوم الحيّز ليس مفهوماً نفسياً فقط، بل له جذور في الأنثروبولوجيا وفن العمارة أيضاً.
2 من محاضرة الحكيم جدّو كريشنامورتي عن «المساحة والحب والرحمة» عام 1975
3 من محاضرة الحكيم جدّو كريشنامورتي عن «المساحة والحب والرحمة» عام 1975
4 المعلم البوذي نورمان فيشر، وهو أيضاً شاعر وكاتب، وهو المسؤول الروحي عن «مؤسسة إيفري داي زن»
5 من مقال الجسد في البوذية
6 من كتاب «السلطة والممارسات الجسدية: تطبيق أعمال فوكو على أنثروبولوجيا الجسد»
7 من المعجم الوسيط
8 wuon
9 wunian
10 bauen
11 دراسة للمهندس المعماري شعيب طليمات، نُشرت في مجلة المهندس العربي في أيلول عام 1981
12 «من دراسة بعنوان الهوية الضائعة للمدينة: دراسة حالة دمشق»
13 من دراسة بعنوان: «فاعلية الرجحانية المعمارية في تشكيل البيئات المعرفية: نهج نفسي فيزيائي»
أُنتجت هذه المادة ضمن مشاريع تخرج «الأكاديمية البديلة للصحافة العربية». الأكاديمية برنامج دراسي مكثف مدته عام، يشجع على الإبداع والتفكير النقدي في الصحافة، وتشرف عليه «فبراير»- شبكة المؤسسة الإعلامية العربية المستقلة
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!