الوضع المظلم
الإثنين ٢٥ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
الحكايات تبدأ بإيران
 مصطفى سعد

ملخص لا بد منه:

تيارات سياسية وفكرية متعددة (شيوعية وإسلامية وليبرالية) وحراك مجتمعي يضم مختلف القوميات انتفضت في وجه شاه إيران محمد رضا بهلوي الذي سقط عام 1979، ليخلفه الخميني الذي سارع ومنذ بداية عهده في الحكم إلى إقصاء شركاء الأمس في الثورة حتى نائبه حسين علي المنتظري (المعارض الديني الذي حُكِم عليه بالإعدام في زمن الشاه) لوصفه ما يجري في البلاد بأنه ديكتاتورية باسم الإسلام.

عملت الجمهورية الإسلامية حديثة النشأة إلى إرساء نظام جيوسياسي جديد في الخليج الفارسي والشرق الأوسط الكبير على أساس شعار "لا شرق ولا غرب".

حيث كان للثورة الإيرانية من الناحية الجيوسياسية أثر أعمق على تحويل الشرق الأوسط أكثر من أي حدث آخر في النصف الثاني من القرن العشرين. فقد كانت نهايةً لـ 2500 عام من الملكية الفارسية ومعها انتهت استراتيجية واشنطن التي اعتمدت على العلاقات الوثيقة مع المملكة العربية السعودية وإيران لتهميش نظام العراق البعثي والحؤول دون ظهور نظام موالٍ لموسكو في الخليج الفارسي. وربما لهذا وصف الرئيس ريتشارد نيكسون إيران وتركيا وإسرائيل بـ "الشرطة الأمريكية" وقد وضعتهم إدارته الاستراتيجية على طول أطراف الدول العربية الغنية بالنفط. ولهذا تدهورت العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران بشكل كبير بعد إنشاء الجمهورية الإسلامية، وأدت أزمة الرهائن 1979-1981 إلى عقود من عدم الثقة والنقد اللاذع بين واشنطن وطهران.

بعد موت الخميني تولى السيد علي خامنئي تشكيل نظام جديد يرتكز على ثنائية المرشد ورئيس الجمهورية بأسلوب وطريقة الخميني؛ لكن الانتخابات الرئاسية التي جرت في شهر أيار من عام 1997 أتت بالرئيس محمد خاتمي الذي تبنى برنامجاً إصلاحياً وعد من خلاله بتحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وأكد على السيادة الدستورية. هذا على صعيد السياسة الداخلية، أما على صعيد السياسة الخارجية عمل على بدء عهد جديد مع الولايات المتحدة الأمريكية يختلف عما كان سابقاً، وإلى تحسين علاقات بلده مع دول المنطقة وعلى رأسها المملكة العربية السعودية.

فكان أول انقسام في الجمهورية الإسلامية بين الشارع الذي انتخب خاتمي بنسبة زادت عن 70% ومؤسسات الدولة التي تدين بالولاء للمرشد والحرس الثوري ومراكز صنع القرار.

عندما تولى الرئيس الإيراني المحافظ المتشدد محمود أحمدي نجاد السلطة 2005، كانت طهران بقيادة رئيسها ومن خلفه المرشد تحكم بغداد، وكان قد ظهر بوضوح الإخفاق الأمريكي في أفغانستان. شكّل هذان العاملان قناعة لدى الرئيس الجديد أن الدور الأمريكي في المنطقة ليس كسابق عهده وهذا الضعف سيمكنه من متابعة برنامجه النووي، مما أدى لفرض عقوبات اقتصادية على طهران في 2006.

لكن الشعب الإيراني لم يملأ الساحات بثورته الخضراء حتى عام 2009 إثر فوز أحمدي نجاد في دورته الثانية على المرشح مير حسين موسوي الذي يعتبر استمراراً لنهج الرئيس الأسبق خاتمي حيث رفع شعار "إيران أولاً" بعد الحصار الاقتصادي.

كانت رؤية موسوي تتلخص بأن الواجب الأول والأهم تحسين الوضع المعيشي وفتح باب الحريات الاجتماعية والسياسية ولا يتم ذلك إلا بالانفتاح على دول المنطقة وعدم مجابهة كل من أوروبا وأمريكا.

سقوط الأخير جعل أنصاره (الطبقة الوسطى والمثقفين والمتعلمين وفئة الشباب والنساء) يتهمون المرشد الأعلى والمحافظين بتزوير الانتخابات ونزلوا إلى الساحات بتظاهرات ضمت الملايين فكانت الهزة الأكبر في تاريخ إيران منذ ثورتها على الشاه.

تم قمع المتظاهرين وقتلهم واعتقالهم وتخوينهم ووصفهم بأنهم عملاء للشيطان الأكبر -الشيطان الذي تحالفوا معه في العراق- وإسرائيل كما جاء على لسان مساعد الشؤون السياسية في الحرس الثوري الإيراني العميد يد الله جواني.

لم ينجح قمع نظام الملالي في إخماد الناس فالشارع ملتهب وساخن وسياسات النظام الشمولي الثيوقراطي أمعنت في إفقار الناس ورفعت مستوى البطالة وزاد بلل الطين الإيراني حصار البنك المركزي ومنعها من تصدير النفط واستنزاف ثرواتها في حروب إقليمية داخلية كَـ (لبنان والعراق واليمن وسوريا)، وكانت نتائج الاتفاق الإيراني - الأميركي زمن الرئيس باراك أوباما مخيبة لآمال الإيرانيين إذ لا تغيير ملموس على الصعيدين الداخلي والخارجي وثبت أن الحصار ليست إلا مشكلة من عدة مشكلات عمرها الآن عقود من الزمن.

وعندما تولى الرئيس الجمهوري دونالد ترامب الحكم في البيت الأبيض وهو الذي يمثل اليمين الشعبوي الأمريكي ويملك رؤية مختلفة عن سابقه أوباما ألغى الاتفاق المبرم بين واشنطن وطهران، وأعاد الحصار والعقوبات على إيران. والاحتجاجات التي قامت (2017_2019) كان محرّكها الفساد الداخلي، والفقر وارتفاع الأسعار وانخفاض مستوى المعيشة. عبّرت الإدارة الأمريكية عن عزمها في تغيير سلوك النظام الإيراني وليس إسقاطه أو استبداله ووقوفها لجانب الشعب الإيراني المنتفض بالشوارع والساحات على نظام ثيوقراطي قروسطي يصرّ على حكم إسلامي وقومي (رغم تعدد القوميات والمذاهب والديانات في إيران) ومساعدته في نيل حقوقه المسلوبة. هدف واشنطن تم الإعلان عنه صراحة عند التدخل الأمريكي العسكري في سوريا فكان أحد أهدافه إخراجها من دمشق وأيضاً من بغداد وصنعاء وبيروت.

أما أحداث اليوم والمستمرة منذ أكثر من شهر ونصف فهي مختلفة عما سبقها، هي ليست ضد النظام السياسي بوصفه نظاماً مستبداً تقوده سلطة غير منتخبة، بل هي ضد نظام إسلامي ديني، لا تستطيع السلطة فيه التهاون أو الالتفاف على مطالب المحتجين بمعاقبة مسؤول "فاسد" أو بعض التجار "الذين يحتكرون" السلع.

السلطة الدينية قائمة على عمودين أولهما الرموز والإشارات وثانيهما خليفة الله في الأرض، وليس هناك رمز أقوى من الحجاب من بين الرموز الإسلامية كما أن المرشد هو أعلى رجالات هذه السلطة، والآن تم نسف العمودين، بعد عام واحد فقط على وضع المرشد الأعلى لإيران «آية الله علي خامنئي» أسس جديدة لإطلاق موجة أخرى من خطة أسلمة القاعدة الشعبية كما وصفها، والهدف منها إنشاء "المجتمع الإسلامي المثالي" وذلك عن طريق استئصال الثقافة الغربية "غير الإسلامية" الدخيلة على المجتمع الإيراني.

الرضوخ لإرادة الشعب الإيراني في حرية ارتداء الحجاب يعني سقوط السلطة الدينية، يعني انتصار المرأة قبل الرجل على سلطة نظام ذكوري غارق بالتخلف، يكفي أن يرفض رئيس النظام إبراهيم رئيسي إجراء مقابلة مع قناة "CNN" الأمريكية لأن المذيعة لا تضع الحجاب، والرئيس الأسبق حسن روحاني في زيارته لإيطاليا 2016 طلب أن تغطى التماثيل الحجرية التي عمرها آلاف السنين!

النظام الإيراني يواجه الآن زلزالاً هو الأقوى من نوعه، لكن ما زال بيده أسلحة عدة لا نعلم إن كانت ستفيده أم لا، أهمها آلة البطش الطاحنة وكتلة اقتصادية واجتماعية وازنة في الداخل الإيراني، بالإضافة للدور الإقليمي والدولي الذي يلعبه، فهو مازال ضرورة في لعبة التوازنات الدولية، لكن قد يضطر لتغيير سياساته أو بدقة أكثر بعض منها، على الصعيدين الداخلي والإقليمي، وبأي حال من الأحوال لن يندم النظام الإيراني على شيء مثل ندمه على مقتل الشهيدة "مهسا أميني"

أهمية الحراك الإيراني وأثره التراكمي

قرأنا مئات التحليلات والسرديات لصعود الإسلام السياسي في العالم العربي وكلها تقرنه بنجاح ثورة الخميني، أي إسلام سياسي سني كرد فعل على إسلام سياسي شيعي، وهو الخطأ بعينه.

العوامل التي أدت إلى انتشار الإسلام السياسي (إخوان – سلفية - وهابية) عديدة منها: أهمها انهزام الأنظمة "التقدمية" في حروبها الخارجية كخسارة حرب حزيران 1967، فشلها الذريع بتنمية بلدانها، تفشي البطالة والفساد والقمع، تخوين أي رأي معارض وحبسه وإعدامه أحياناً، تفاوت طبقي، ومشكلات إدارية وخدمية وفي كل القطاعات من التعليم إلى الطبابة.

حدث مهم أيضاً هو توقيع الرئيس المصري الراحل أنور السادات اتفاقية كامب ديفيد عام 1978، الذي خلق حالة من العصبية الدينية، من جملة ما نتج عنها كتاب "الفريضة الغائبة" للمهندس المصري محمد عبد السلام فرج والذي أعدم لاحقاً، ليصبح كتابه ملهم لكل التنظيمات الجهادية في العالم الإسلامي.

ولعلّ قرار إنشاء مجلس التعاون الخليجي عام 1981 هو الانعكاس الأوضح لأثر نظام الإسلام السياسي في إيران على الشرق الأوسط عموماً ودول الخليج العربي على وجه الخصوص. وفي حين يُعزى هذا القرار جزئياً إلى الغزو السوفيتي لأفغانستان في عام 1979، إلا أن خطاب النظام الإيراني الجديد وسلوكه هو الذي هز قادة الخليج العربي وخاصةً قادة الدول التي تضم عدداً كبيراً من الشيعة - البحرين والكويت والعراق والسعودية.

ومع أن الرياض كانت حذرة في ردها الأولي على القادة الثوريين الجدد في طهران حيث أرسل الملك خالد بن عبد العزيز، الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي تهنئة للحكومة الإيرانية واصفاً إنشاءها بأنه "مقدمة لمزيد من التقارب والتفاهم" بين المملكة العربية السعودية وإيران؛ لكن سرعان ما توترت العلاقات بين الرياض وطهران. حيث رأت القيادة السعودية يد إيران في الاضطرابات التي حصلت نتيجة استيلاء الأصوليين على المسجد الحرام في مكة ودعوتهم للإطاحة بآل سعود عام 1979 وانتفاضة الشيعة في المنطقة الشرقية وقمعهم من قبل قوات أمن الدولة، وكذلك في مؤامرة الانقلاب الفاشلة ضد عائلة آل خليفة الحاكمة في البحرين.

بعد أكثر من أربع عقود أصاب الإسلام السياسي ما أصاب الأنظمة العربية، فشل وإرهاب وتخلف وقمع واستبداد، فقدان جمهوره وشارعه، والأهم من كل هذا أنه فتح باباً خجولاً لنقد الدين نفسه، إن كان على مستوى الأحاديث والسنة أو تفاسير القرآن، لكن لن يمر وقت طويل لفتح الباب على مصراعيه، والقيام بثورة ضد استخدامه في السياسة.

أخيراً: لنتذكر أن التأميم في العالم العربي بدأه الراحل عبد الناصر في مصر عام 1956 أي بعد تأميم حكومة محمد مصدق في إيران 1951-1953، والتشدد الديني وصل لأوجه في المنطقة ترافق مع وصول حكم ديني لطهران 1979، كذلك الربيع العربي انطلقت شرارته في تونس 2011 بعد الثورة الخضراء 2009، فهل نشهد ثورة جديدة على ممثلي الله في بلداننا على غرار ثورة الشعب الإيراني؟

ليفانت - مصطفى سعد

كاريكاتير

قطر تغلق مكاتب حماس

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!