الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
الدكتاتور الجديد وجنون العظمة
عبد العزيز مطر

يعيش العالم جملة من المآسي التي سببتها أنظمة ديكتاتورية وحكومات شمولية تقودها دكتاتوريات وشخصيات كانت وريثة لحقبة سوداء حكمت أجزاء من العالم في القرن الماضي. ولعلّ أبرز تلك المآسي ما تعانيه منطقه الشرق الأوسط من حكم هذه الدكتاتوريات والأنظمة، بالإضافة لمأساة جديدة تضاف إلى مآسي هذا العالم ونكبة جديدة بالعالم الحر المتمدن في محاولة لإرجاع التاريخ إلى تلك الحقبة السوداء.

ويأتي العدوان الذي شنّته دولة روسيا الاتحادية ممثلة بنظامها الدكتاتوري الذي يقوده أحد بقايا الاتحاد السوفياتي سابقاً على دولة أوكرانيا المستقلة بغية احتلالها وتفتيت شعبها وتحويله إلى مهاجرين ونازحين يملؤون بقاع العالم، كما فعل سابقاً بتغطيته لمجرم دمشق الذي شرد الشعب السوري ودمر مقدراته وأرضه وحاضره وجزء كبير من مستقبله معتمداً في إجرامه لحدّ كبير على آلة القتل البوتينية.

لا تختلف المقارنة كثيراً بين ما عاناه الشعب السوري وما يعانيه الشعب الأوكراني، ولكن لا يسعني في هذا المقال إلا أن أقول إن الساحر الذي حاول أن يحول فجر أوكرانيا إلى ظلام قد انقلب سحره عليه، ذلك الدكتاتور الجديد الذي أصابه جنون العظمة الناجم عن موروثات مقيتة من فكر شيوعي مشوب بأحلام وأطماع روسيا القيصرية سابقاً.

وبالتأكيد عندما أقدم هذا السفاح الجديد على اتخاذ قرار باحتلال دولة ذات سيادة، كأوكرانيا، كان يسعى إلى كثير من الأهداف، حاول جاهداً إخفاء قسم منها، بينما أفصح عن قسم آخر من هذه الأهداف، ولعلّ أبرز أهدافه كان هو احتلال أوكرانيا، أرضاً وشعباً، وإسقاط عاصمتها في فخ وفلك حكمه الشمولي الذي يسعى لضم دول أخرى لاحقاً نالت حريتها منذ أربع عقود.

حاول ذلك المجرم عزل دولة تسعى للديمقراطية وترسيخ مبادئ الحرية عن محيطها الأم، وهو المحيط الأوروبي، محاولاً توجيه ضربة لحلف الناتو وأوروبا الموحدة عبر سيطرته على أجزاء من هذه الدولة، ولكن إذا تابعنا مجريات الأمور منذ شهرين وحتى الآن، نجد أن هذا الديكتاتور لم يحقق أياً من أهدافه، بل بالعكس، فحملته الشعواء التدميرية حققت النقيض تماماً من الأهداف وأظهرت مدى هشاشته وهشاشة جيشه وفضحت الصورة الحقيقية لنظام الحكم الذي كان يريد أن يروّجها كمحرر لهذا العالم مما يسميه هيمنة القطب الواحد، وأظهرت طبيعة وشكل الحكم في روسيا والديمقراطية الزائفة التي تتبناها مافيات روسيا الاتحادية كشكل من أشكال قيادة هذه الدولة، وأظهرت بشكل لا لبس فيه أشكال وطبيعة الأنظمة التي أيدت هذه الجريمة على مستوى العالم بحلف لا يمكن أن يطلق عليه إلا وصف حلف المنبوذين، كأنظمة حكم كوريا الديمقراطية وسوريا الأسدية وبيلاروسيا وغيرها من الأنظمة المنبوذة على مستوى العالم.

وبنظرة واقعية لا نستطيع القول بأن قرار هذا المجرم كان ناجماً عن غباء، كون ماضيه وتاريخه يتحدث عن شيء مخالف لهذا، فخلفيته الاستخباراتية وعلاقاته المافياوية على مستوى العالم وقيادته لدولة منذ عقدين بطريقة إفرادية تدل على الذكاء المرسوم بالشر، وإنما قرار هذه المعركة وهذه الجريمة كان بفعل داء العظمة الذي أصابه وجعله لا يدرك مخاطر ما يقوم به.

حقق هذا الغزو الكثير مما تطمح إليه أوروبا والعالم الحر من إعادة التكاتف واللحمة إلى هذا العالم. فبلاد مثل أوكرانيا حتى فترة قريبة لم تكن محط أنظار العالم الذي أصبح اليوم متعاطفاً معها وراغباً بتقديم كل شيء من أجل الدفاع عن نفسها وعن بوابة أوروبا الشرقية، ولطالما حاول ساسة أوكرانيا جاهدين الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والناتو وكان دوماً الجواب إن الشروط لا تكفي.

هذه المعطيات الآن تغيرت وأصبح هناك رغبة جامحة لقيادة الناتو والاتحاد الأوروبي بضم أوكرانيا ودول أخرى لتشكيل صف واحد لمقاومة الإجرام القادم من الشرق. بالتأكيد تابع العالم ولأسابيع عدة، وما زال يتابع، هذه الجرائم التي ترتكب يومياً في أوكرانيا من تدمير وحرق وإنهاء للبنى التحتية وقتل للمدنيين العزل وتهجير للسكان الآمنين وانتهاك للحرمات الإنسانية، وأعادت هذه المشاهد الصورة للعالم عما عاناه الشعب السوري وما زال يعانيه على يد أحد أذرع بوتين في الشرق الأوسط، وهو النظام السوري، الذي كان بوتين ملهماً له في إجرامه، واستذكر العالم الجرائم التي قادها بوتين في كوسوفو والشيشان وسوريا بكثير من الأسى.

كل هذه المشاهد التي تدمي القلوب وتلك الحملة الإجرامية التي يشنّها بوتين دفعت بكثير من الدول والحكومات الأوروبية إلى الوقوف ملياً والتفكير جدياً لإعادة رسم سياستها العسكرية التي انتهجتها منذ نصف قرن، والتي كانت تقوم على النأي بنفسها عن أي نزاعات أو حروب، فهذه ألمانيا، وهي عملاق أوروبا الاقتصادي الذي أيقظه الإجرام الروسي في أوكرانيا، بدا يسعى لإعادة بناء قوته العسكرية، وهذه الحكومات الأوروبية بدأت جميعها بالتكاتف لإعادة تفعيل التحالف الاستراتيجي فيما بينها وتعزيز قواتها الدفاعية من أجل مجابهة أي خطر يواجه العالم الحر الذي أصبح مستهدفاً من قبل محور الشر الذي تقوده روسيا وتدور في فلكه أنظمة، كإيران وكوريا الديمقراطية وسوريا، وغيرها من الحكومات المارقة.

وجاء تصويت الأمم المتحدة على قرار إدانة الغزو ليظهر كم كانت هذه الحملة العسكرية معزولة ومنبوذة، وأكد العالم بأجمعه على أنه في الصف المواجه للقتلة ولن يكون في جانب ممن يسعون لتدمير الإنسانية وتشريد الشعوب واحتلال الدول.

حملة بوتين العسكرية على أوكرانيا أوضحت للعالم أجمع بأنه لا مجال أمام العالم الحر إلا في تحصين نفسه ودوله وتعميق أسس الديمقراطية والحرية وحلّ المشاكل بين الدول بالطرق السلمية والتصدّي جميعاً لأي طفرة إرهابية إجرامية في هذا العالم بقوة وبحزم وبتكاتف من جميع هذه الدول.

أدرك الكثيرون في أوروبا وأمريكا والعالم الحر مدى الخطأ الجسيم الذين ارتكبوه بترك الشعب السوري فريسة للإجرام الأسدي، ومن خلفه بوتين، وأن باب الإجرام في سوريا لم يكن إلا بوابه لنفق من الجرائم اللاحقة، وهذا ما حدث بالفعل، فاليوم لا يختلف السوري وما يعانيه عما يعاني اللاجئ من أوكرانيا ولا تختلف مشاهد الدمار في حلب عن مشاهد الدمار في كييف بل تكاد تكون واحدة، فالقاتل واحد والمجرم واحد والضحية واحدة وهو الشعب البريء المسالم إن كان في سوريا أو في أوكرانيا.

بالتأكيد ستفشل حملة بوتين الإجرامية في أوكرانيا ولن يكون مصيره إلا مشابهاً لمصير من سبقوه من دكتاتوريات ومن قتله ومجرمين، من نيرون إلى هتلر.

ليفانت - عبد العزيز مطر

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!