الوضع المظلم
الأربعاء ٢٥ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
الدولة العميقة تطفو فوق سوريا
غسام المفلح

مصطلح الدولة العميقة (Deep state) يعبّر- عن ذلك التحالف العميق الذي يجمع بين ظهرانيه بنيات الدولة المختلفة، من مركب إداري وسياسي وإعلامي ومؤسسة عسكرية واستخبارات وقضاء ومثقفين ورجال دين تجمعهم مصالح اقتصادية ومشاريع تجارية ومالية، وعلاقات اجتماعية وعائلية..، وطقوس احتفالية وانتماءات طائفية أو مذهبية وما سواها.. وتوحدهم جميعاً "رابطة" واحدة منطلقها ومؤداها: الإبقاء على مصالحهم وامتيازاتهم الخاصة، واستثنائهم من أية محاسبة أو مساءلة، ثم عدم تعرضهم لأية متابعة قضائية إن اهتز النظام القائم، أو استجدت أحداث من شأنها زعزعة المنظومة. إنها عبارة عن تحالف اجتماعي عميق مع طبقات اجتماعية أو شرائح فيها وخاصة بيروقراطية الدولة وأجهزة الحكم المحلي. ويمتد هذا المركب إلى قطاع من المجتمع المدني، علماً أن لهذا المركب امتدادات إقليمية ودولية.


مصدر ظهور مصطلح «الدولة العميقة» أولاً في تركيا في تسعينيات القرن الماضي للتعبير عن شبكات من المجموعات وضباط القوات المسلحة الذين أخذوا على عاتقهم حماية علمانية الدولة التركية بعد قيامها على يد مصطفى كمال أتاتورك ومحاربة أي حركة أو فكر أو حزب أو حكومة تهدد مبادئ الدولة التركية العلمانية، وكان ذلك أول تعريف وظهور لمفهوم الدولة العميقة، فإن بعض الباحثين (بيتر سكوت مثلاً) يُرجع جذوره إلى عملية تطوير ما يسمى "دولة الأمن القومي" في الولايات المتحدة في أواخر الأربعينيات من القرن المنصرم، حيث رأت حكومة (هاري ترومان) أهمية التركيز على الأمن القومي في استجابة، وقتها، لصراع الحرب الباردة القادمة مع الاتحاد السوفيتي. وعلى هذا الطريق وقّع الرئيس (ترومان) سنة 1947 قانون الأمن الوطني The National Security Act الذي تأسست وفقاً له وكالة الاستخبارات المركزية CIA، ووكالة الأمن القومي NSA، ومعظم الأجهزة الأخرى في جهاز الأمن الداخلي والخارجي، وكانت هذه انطلاقة التفكير في دولة الأمن القومي. وبدا أن الدولة العميقة تتمثل في شبكات السلطة السياسية في (واشنطن) والسلطة الاقتصادية والمالية في وول ستريت (نيويورك) والتي تعمل على حماية مجموعة من شبكات المصالح المختلفة.


أما مفهوم الدولة الموازية parallel state الذي صاغه المؤرخ الأمريكي Robert Paxton يعني مجموعة المنظمات أو المؤسسات التي تشبه الدولة في تنظيمها وإدارتها وهيكلها، ولكنها ليست رسمياً جزء من الدولة الشرعية أو الحكومة. وهي تعمل في المقام الأول على تعزيز الايديولوجية السياسية والاجتماعية السائدة في الدولة. وبذلك تختلف عن "الدولة العميقة" والتي تعمل على تعزيز مصالحها الخاصة دون الاكتراث لإيديولوجية الدولة. كما تختلف الدولة الموازية عن "الدولة داخل الدولة"state within a state، حيث أنها عادة ما تحظى بتأييد النخبة السياسية السائدة في بلد ما، في حين أن "الدولة داخل الدولة" هي عبارة عن مصطلح لوصف المؤسسات الشبيهة بالدولة التي تعمل ضد المصالح العليا للدولة القائمة. دويلة حزب الله في لبنان نموذجاً. أما نموذج الدولة الموازية سورية الأسد في الحقيقة تجمع بين الدولة الموازية مؤسسات البعث والنقابات وغيرها التابعة للسلطة باسم تبعيتها للدولة. والدولة داخل الدولة هي المجموعات التي يختارها الأسد لتكون قريبة منه أكثرهم من ضباط الطائفة العلوية حصراً.


من خلال ما يمكننا تسميته "تنضيد دوائر الموالاة" الأقرب فالأبعد. من جهة أخرى أظهرت الحرب الدولية التي شنّت أسدياً على الثورة السورية، ظهور استعراضي لضباط مقربين لم تكن هذه الحالة معروفة سابقاً في سورية. كظاهرة سهيل الحسن الذين لقبوه بـ"النمر" نمر على من؟  وجميل الحسن. على سبيل المثال لا الحصر. من جهة أخرى إظهار طائفية السلطة منذ أول يوم للحراك السلمي بمواجهة المتظاهرين. حيث انتشرت عبارات "من هو ربك ولاك؟" "بدكن حرية" " الأسد أو نحرق البلد" وغيرها وكلها تقال وتنطق بلهجة علوية ثقيلة، وعند تعرض المتظاهرين السلميين للتعذيب والقتل. حتى لو كان قائلها في أحيان قليلة جداً ليس علوياً!!. هنا وفي هذا السياق لا بد أن نميز أن طائفية السلطة الأسدية هي الدائرة الأوسع للموالاة الصلدة حيث عمادها العسكر، لكنها ليست الدائرة الأقرب التي تعبر حقيقة عن "الدولة العميقة" لكنها أداتها. هنا لا يوجد دولة بالمعنى المتعارف عليه في سورية" الأسد" بل هي "السلطة الأسدية العميقة والظاهرة".


من خلال وجه الديكتاتور. لا أحد سواه. الأسدية هي المتمحورة حول شخصية الأسد تحديداً. حتى أقرب الضباط في النهاية هو حذاء يستبدله الأسد عندما يشاء. كذلك الحال بالنسبة لبيرقراطيي "أجهزة الدولة" أو لما يسمى "رجال أعمال" لهم علاقات تشاركية أو غيرها مع الضباط ومع الأسد أحياناً وعائلته. كلها يمكن أن يستبدلها بلحظة ويحطمها. لم يعد هنالك في سورية دولة عميقة بالمعنى المعروف للكلمة. أيضاً لم يعد هنالك سلطة عميقة. حيث برز وجه الأسد وحيداً في تلزيم البلد للاحتلالات الروسية والإيرانية وغيرها. على صعيد السيادة!! وتقتيل الشعب بقراره هو شخصياً. تفجير خلية الأزمة المعروف كان لدرء أي احتمال من قبل أحد الضباط لمجرد النقاش. لأننا كما نعرف باستثناء آسف شوكت زوج أخت الرئاسة. لا يوجد من بين ضباط خلية الأزمة من يحوز على شيء من السلطة. هذا الجميع بين دولة عميقة ودولة موازية وسلطة ديكتاتورية مشخصنة بشخص صاحبها الأسد. كانت تعمل بهذه المقاربة قبل الثورة السورية 2011. بعد الثورة كلها تحولت إلى أجهزة قتل فقط. على سطح هذا البلد.


في حين يربط باحث آخر هو بيتر سكوت (Peter Scott) بين مصطلح "الدولة العميقة" وبين مصطلح "السياسة العميقة" Deep Politics، والتي يقصد بها كل الممارسات والترتيبات السياسية المتعمدة أو غير المتعمدة، والتي يتم قمعها عادة بدلاً من الاعتراف بها، وقد حاول سكوت من خلال مصطلح "السياسة العميقة" تعريف "الدولة العميقة"، ولكن على نطاق أوسع يمكِّنه من التطبيق على الحالة الأمريكية. فقد حاول توصيف حالة التفاعل بين الدولة الدستورية الشرعية القائمة، والقوى العميقة التي تقف وراءها ذات الثروة والسلطة، والتي تستخدم العنف خارج إطار الحكومة، وهو ما أطلق عليه الباب الخلفي للدولة The Back Door of the State أو طريق الهروب أمامها، مما يتيح الوصول إلى قوى الظلام خارج نطاق القانون.


عن وصول شخص كدونالد ترامب إلى سدة الرئاسة بوصفه "رجل اعمال" و"ٍShowman" أو رجل مجتمع الفرجة. يمكننا الحديث عن هذا المزج بين احتياجات الدولة العميقة واحتياجات مجتمع الفرجة. ليس أبرع من ترامب ربما في لعب هذا الدور. ببساطة ما يقوله ترامب ويتصرفه هو إخراج مكنونات هذا العمق إلى السطح. جعله متداولاً. هذا بحد ذاته يعتبر ميزة إيجابية من جهة، لكنه من الجهة الأخرى يعبّر عن سوء هذه الدولة العميقة. كيف تتعامل مع المجتمع الأمريكي والمجتمعات والدول الأخرى. دون أن يتم التصريح بذلك وعنه سابقاً.


في أوروبا أرى أنه من المناسب الحديث عن نموذجين من الدولة العميقة. النموذج الجمهوري، تجسده فرنسا. النموذج الملكي تجسده الدول التي تملكها ملوك!! الدولة العميقة في فرنسا، لا تختلف كثيراً عن غيرها في أمريكا وتركيا. لكن في الدول الأخرى كانت العائلات الملكية ولاتزال جزءاً رئيساً من الدولة العميقة. مهمتها الحفاظ على النظام الملكي. تلتف حوله أو تشاركه نخب هذه الدول العميقة. الملك يملك ولا يحكم صحيح، لكن هذا متوقف عن الحد الملكي. العائلات المالكة كلها بدون استثناء لديها حصانة في دساتير هذه البلدان. ليس كأشخاص بل كملكية يجب أن تستمر إلى يوم القيامة كما يقال. مهمة الدولة العميقة هي الحفاظ على سلطة النظام الديمقراطي بما يمثله من سيطرة طبقية ونخبوية مصلحية. لكن بعيداً عن ملابسات التجربة التركية. أظهرت التجربة أن الديكتاتورية تلغي مفهوم الدولة العميقة. لأنها أساساً تلغي دور الدولة ككل بالمعنى النسبي للعبارة، لصالح سلطة مركزية مشخصنة حول الديكتاتور- الرمز.


لم يكن هنالك في الدول التي كانت تسمى اشتراكية أي حضور لمفهوم الدولة العميقة. هذا الأمر لايزال ساري المفعول في الصين وكوريا الشمالية. أما روسيا الآن فهي ديكتاتورية محدثة غربياً. لا وجود كما قلنا في ظل أي ديكتاتور لمفهوم الدولة العميقة.


النظام الملكي الدستوري في أوروبا، يشبه على هذا الصعيد الوضع التركي قبل مجيء حزب العدالة والتنمية. والاتجاه نحو ديكتاتورية محدثة على الطريقة الأردوغانية هذه المرة. حيث الدساتير والقوانين تسائل الأشخاص الملكيين، لكنها لا تسائل النظام الملكي برمته.


تطوران جديدان دخلا في التاريخ العالمي، أديا إلى إنهاء نسبي للدولة العميقة ووظيفتها. لم تنتهي من حيث الفاعلية والنفوذ. بل انها خرجت للسطح خاصة في سورية والشرق الأوسط.


العامل الأول انهيار المعسكر الشرقي وانتصار المعسكر الغربي بقيادة أمريكا. العامل الثاني في تداخل مع العامل الأول. غياب الصراعات الإيديولوجية عن اللوحة العالمية، وحضور الصراعات التنافسية الرأسمالية إلى واجهة الحدث. هذان العاملين أثرا على قيام حالة من الغطرسة بهذا الانتصار ومتطلباته داخلياً في هذه الدول. وحدة التنافسية من جهة أخرى كل هذا أدى إلى خروج الدولة العميقة إلى سطح الحدث مباشرة. لم تعد تحتاج الى واجهات سياسية وحزبية. نزلت بثقلها وايديولوجيتها المتوحشة. خاصة في سورية وفي بلدان الربيع العربي والشرق الأوسط عموماً. هذه النقلة كانت واضحة في سورية. حيث أن هنالك نسبة ساحقة من النخب الفاعلة على كافة الصعد في أمريكا ودول أوروبا، تدعم بشكل سافر الإبادة الأسدية. حتى وصلت مفاعيل هذه الدولة العميقة- الطافية إلى السيطرة حتى على الإعلام الغربي، سيطرة لم نعهدها من قبل. حيث إلغاء الحدث السوري من واجهة هذا الإعلام تقريباً.


تصريحات النخب الغربية السياسة والثقافية وغيرها عن الحدث السوري وكيفية تعاطيهم معه. يظهر وحشية لا تقل عن وحشية الأسدية وإيران وبوتين. نعم الدولة العميقة في الغرب اعلنت عن نفسها في سورية. هي التي كانت تدير الحفاظ على هذا النمط من السلوك الدولي مع شعوب المنطقة. المفارقة الطريفة: ان خطاب حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية. صار في جوارير مكاتبهم. أو في أرشيفهم المراد نسيانه.


ألا تعبر صفقة القرن "السورية" وموقف النخب الأمريكية المتصارعة على الانتخابات عن ذلك أيضا؟

الموضوع يحتاج لنقاش أوسع، خاصة فيما يتعلق بالوضعية القانونية لما يسمى الدولة العميقة في تلك البلدان.

***


اعتمدت كثيراً في هذه المادة على دراسة الدكتور صالح ياسر عن الدولة العميقة. لأني رأيتها المادة الأكثر خصوبة ومعرفة بمفهوم الدولة العميقة من كل ما قرأته لكتابة هذه المادة. التي هي جزء من مادة مطولة حول الدولة والسيادة والسلطة.


ليفانت - غسان المفلح



 

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!