الوضع المظلم
الأربعاء ٢٥ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
الشعوب وصناعة الأصنام البشرية
كفاح محمود كريم

لقد ورثت النخب السياسية التي تولت الحكم في العراق بعد 2003 تراكماً سلوكياً وفكرياً وأنماطاً من الممارسات التي كان يمارسها الرئيس السابق صدام حسين ويستخدمها مع تمتعه بكاريزما عالية مدعمة بقوة وشدة في التعامل وإفراط في الإنفاق من المال العام، حتى أصبح بنظر العراقيين وغالبية الشعوب العربية إمبراطوراً يمتلك كل مقدرات العراق وله حق التصرف بها لوحده دون غيره.

هذا الإرث وغيره من الموروثات التاريخية تحول بدراية أو بدونها الى سلوك لدى كثير من الزعامات السياسية التي تبلورت خلال العقدين الماضيين، وأصبح جزءاً من ممارساتها اليومية في تقليد شخصية صدام حسين أو غيره بوعي أو كشعور انعكاسي وتحصيل حاصل لتراكم تاريخي من الحكم الفردي والشمولي المتكلس في الذاكرة الفردية والاجتماعية، ورغم أن صدام حسين في تاريخنا المعاصر يكاد أن يكون الأكثر تميزاً في هذا السلوك الطاغي في الفردية المطلقة إلا أن جولة سريعة في دهاليز التاريخ القريب والبعيد سنجد فيها المئات من أمثاله في مجتمعات مثقلة بالتخلف وغياب الوعي إلى درجة أن كل ما حدث في العراق وفي العديد من البلدان المتشابهة معه من تغييرات ترقيعية في النظام السياسي لم تزل تلك المتكلسات المتوارثة في التفكير والسلوك، بل ربما زادت أكثر في توالدها منذ تحطيم الأصنام الحجرية التي صنعها الإنسان قبل آلاف السنين بديلة لرب يعبده أو قوة يخشاها أو مرجع يعود إليه في انكساراته وهزائمه حتى يومنا هذا، حيث تم استبدال الحجارة بالإنسان في صناعة الأصنام!

هذه الصناعة بحد ذاتها هي عملية بحث عن ملاذ أو ملجأ يهرب إليه الفرد والمجتمع من حالة الانكسار للخلاص من التردي المتراكم، ولعلنا نتذكر قصة الحذاء الذي قذفه أحد الصحفيين بوجه الرئيس الأمريكي في بغداد وتهافت كل وسائل الاعلام العربية على ذلك الحذاء الحدث الذي حولته خلال ساعات إلى رمز من رموز المقاومة والوطنية، وحولت الصحفي إلى شخصية تكاد تنافس عنترة بن شداد في ذاكرة التراكم الانكساري!

وبجولة سريعة في تاريخ منطقتنا المعاصر نرى أن هزائم الحروب في أربعينات القرن الماضي أفرزت ثورة مصر وزعيمها الرئيس عبد الناصر، كما أنتجت هزائم حزيران عام 1967م صدام حسين وحافظ الأسد والقذافي، وأخيرا أنتجت ماكنة الهزائم بعد اجتياح لبنان وسقوط بغداد العشرات من المنظمات المتطرفة والميليشيات وزعمائها التي تعمل ليل نهار في تخدير شعوب هذه المنطقة وسوقها الى أتون حروب مدمرة وانتكاسات جديدة كما حصل في هزيمة حزيران وحرب الخليج الثانية وسقوط بغداد وتدمير لبنان وأخيراً ذبح غزة من الوريد إلى الوريد تحت شعاراتهم وعنترياتهم الفارغة التي جاءت كالعادة صدى لتلك الماكينة الإعلامية العوراء التي تستهين بعقول الناس كي تحول تلك الهزائم المخزية الى انتصارات وهمية تشبه ذلك الانتصار البائس في حرب الخليج الثانية وجعله (أم المعارك) بعد تدمير العراق بالكامل، واعتبار تدمير غزة وقبلها لبنان انتصاراً لفرسان الأمة ومجاهديها؟

إن إطلاق وتداول تسمية الرئيس أو القائد على رؤساء مجموعات مسلحة وميليشيات وأحزاب واختزال الشعب أو الأمة فيها، هو بحد ذاته انعكاس لشعور داخلي متأثر جداً بسلوك صدام حسين وأمثاله في التاريخ، وهي أيضاً بداية عملية تصنيع أصنام بشرية وإدامة ثقافتها في بيئة نفسية واجتماعية لم تتغير بإسقاط نظام صدام حسين، وما زالت تعاني من تراكمات نفسية واجتماعية أدت الى الفشل في تكوين دولة ونظام سياسي معاصر تسوده القوانين وأسس الدستور تحت مظلة المواطنة، حيث بدلاً من إحداث تغيير جذري في بنية المجتمع والدولة لجأت تلك الأحزاب والمجموعات والأفراد تحت مطرقة تلك الأنظمة الفاسدة وتراكماتها وبغياب الوعي وتسيّد النظام القبلي والمذهبي وانتشار الفساد المالي والإداري إلى تقزيم الدولة بمجموعات مسلحة وميليشيات تتزعمها شخصيات مافياوية تحولت إلى حيتان للفساد الذي ينخر مفاصل الدولة والمجتمع.

 لقد أثبتت تجارب الشعوب أن إقحام الدين ورجالاته والقبيلة ورموزها وأنظمتها في تكوين وإدارة الدولة سيربك عملها ويزيد الفجوة بينها وبين بقية مكونات وتوجهات الشعوب، خاصة وأن القبيلة كنظام اجتماعي في مجتمعاتنا محل احترام وتقدير له ولرموزه حاله حال الدين وقدسيته، ولذا فالنأي بهما عن الدولة والسياسة سيحفظ لهما مكانتهما ويبعد الدولة من ارهاصات تشابك وتشتت مراكز القرار ومن ثم اضعاف سلطة القانون والدولة واقحام هذين المكونين في الاعيب السياسة وأداء الدولة، ولعل في تجارب دول أوروبا وأمريكا واليابان وكوريا دروس تؤكد أن طريق الخلاص يبدأ بالعلم والمعرفة والتربية الحقة وبناء دولة السلام والعدالة والعلم بعيداً عن هذا الإرث المتكلس في ذاكرة وسيكولوجية هذه الشعوب.

ليفانت: كفاح محمود

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!