الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
العلمانية الحيادية في مواجهة العلمانية الشمولية
سميرة مبيض

د. سميرة مبيض


كان لا بد لهذا المفترق من الظهور يوماً بين دُعاة العلمانية بمفهومها الجوهري القائم على الحيادية الكاملة للدولة، أو لأي شكل إدارة أو حوكمة، تجاه الأديان والتي تعترف بالتعددية الفكرية والثقافية الإنسانية وبالحريات الفردية بممارسة العقائد واعتناق المعتقدات، أو عدم اعتناقها، طالما لا تتعارض مع حقوق الإنسان وحريات الآخرين. وبوصفها فكر اجتماعي، يسمح بتواجد مكونات مختلفة ضمن مجتمع واحد، في إطار مكاني وزماني واحد، وإدارة مجتمع تكون السلطة فيه على مسافة واحدة من جميع المواطنين، دون مفاضلة في منشئهم الديني.


وبين العلمانية الشمولية بتعريف الشمولية بكونها التيار الذي لا يسمح إلا بسيادة توجه واحد ينهي تعددية الرأي والفكر والثقافات ولا يعترف إلا بفكر شمولي سائد مهيمن على الحياة العامة والخاصة بعدوانية وقمع لأي تنوع مقابل له، في ارتباط مريب للعلمانية الشمولية بالتيارات الشمولية ذات الصبغة الدينية من جهة والتي تَفرض بتشدد مذهباً واحداً وشرائع دين محدد على المجتمع دون أي احترام للتنوع الوجداني حتى ضمن أفراد يتبعون اسمياً لنفس الدين، تجمعها الشمولية ذاتها بالتيارات ذات الصبغة القومية والتي تفرض وتفترض هيمنة فئة محددة تبعاً لانتماء قومي يتجلى بثقافة سائدة لا تحترم الوجود القائم والبديهي لثقافات أخرى.


تترجم العلمانية الشمولية نفسها بمعاداة الأديان ولا يُمكنِها أن تُشكل محيطاً حيادياً لإدارة المجتمع حيث يُظهر الأفراد المنتمين لهذا التوجه عداء تجاه أي ثقافة دينية، ولا يستطيعون تبني الحياد تجاه الحرية الفردية للإنسان بإظهار ثقافة دينية سواء أكان يؤمن بها أو كانت تَسم حياته الثقافية أو الاجتماعية، فتجدهم متحفزين عدوانيين ومهاجمين لأي سمة تنوع ثقافي بهذا السياق.


لا بد أن أحداث الشمال السوري الأخيرة كانت نقطة افتراق واضحة في موقف تياري العلمانية المذكورين آنفاً على الصعيد السوري، ففي حين التقى التياران سابقاً في الموقف تجاه التيار الشمولي الإسلامي المتطرف، السياسي منه أو العسكري متمثلاً برفض الفصائل الإرهابية من داعش والنصرة وهيئة تحرير الشام ومسميات أخرى، وبرفض التوجه الشمولي الحامل لفكر فرض الدين على الدولة وفرض الشرائع على المجتمع. فقد افترقا اليوم في مواجهة الفكر الشمولي الستاليني، الذي يُفرض بالقوة على مجتمع تعددي والمتمثل بحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وتبعيته لحزب العمال الكردستاني التركي، والذي يسعى لجعل الإلحاد كعقيدة رسمية على نفس درجة تطرف العقيدة الجهادية الدينية وبنفس الأدوات، من عدوانية وكراهية للآخر والرغبة بالقضاء عليه وقمع الحريات الفردية وعدم الاعتراف بها والسيطرة على فكر الأفراد، ويظهر على أرض الواقع كما يعرفه الفيلسوف ريموند آرون كدين علماني، يدافع عنه ويدعمه تيار العلمانية الشمولية بسبب الانتماء الأيديولوجي لهذا الفكر وان تم تغليفه بأقنعة عديدة في حين ترفض العلمانية الحيادية قطب التطرف العلماني كما أي قطب آخر.


لكن لحظة المواجهة تلك تُسقط كل قشور ويظهر الانتماء الكلي الذي يتجاوز أي حاجز قومي فنرى على سبيل المثال أصحاب هذا الفكر الشمولي من السوريين مستعدين للتحالف مع حزب تركي بناء على انتماء أيديولوجي في حين يرفضون تحالف سوريين من التيارات الإسلامية مع حزب تركي آخر ويتهمونهم بالتبعية والارتهان، بينما الواقع يقول ان الطرفين مقيّدين مرتهنين لانتماء أيديولوجي سيبعدهم عن أي توجه وطني وعن القدرة على تبني مصلحة السوريين كأولوية عن انتمائهم المتشدد.


هذا الفكر الشمولي الذي ينحسر من العالم أجمع، بعد أن ثبت فشله وعدم توافقه مع حقوق الإنسان التي تضمن حرية المعتقد والتفكير وممارسة الشعائر، لازال البعض يتمسكون به في محاولة لإحياء للفكر الماركسي تماماً كما يتمسك أقرانهم من الطرف الآخر في العودة الى دولة الخلافة لتجسيد انتمائهم. وان تراوحت القفزة الزمنية للوراء لكنها في مسار متراجع لا يدرك السائرون فيه أن انحساره وقع بسبب عدم تحقيقه لطموحات الإنسانية التي تسير نحو خلق النظم الأكثر استقراراً والتي تحقق الازدهار والأمن للجميع وليس لفئة على حساب فئات أخرى، الى أن يدركوا أن المسار يسير قدماً،  سيبقى قلة يتوجهون لتبني انتماءات بائدة وسيكمل البقية الطريق نحو العلمانية الحيادية مع من تحرروا من حاجز العلمانية الشمولية وأمراضها.


 




العلامات

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!