الوضع المظلم
السبت ١٢ / أبريل / ٢٠٢٥
Logo
  • العهد الأخير: تركيا ما بعد أردوغان… من سيرث العرش؟

العهد الأخير: تركيا ما بعد أردوغان… من سيرث العرش؟
محمد العرب 

رجب طيب أردوغان، الرجل الذي غيّر وجه تركيا منذ مطلع القرن، بات يقترب من مفترق الطرق النهائي في مسيرته السياسية بعد أكثر من عقدين في الحكم، بين رئاسة الوزراء والجمهورية، تحوّل أردوغان إلى ما يشبه الأب المؤسس للحقبة الجديدة بما لها وعليها ، جامعاً بين البراغماتية الدينية، والاقتصاد النيوليبرالي، والحنين العثماني في قالب واحد ، لكن لكل عهد نهاية، والسؤال لم يعد إن كان سيرحل، بل متى وكيف ومن بعده…؟

من الناحية الدستورية، فإن ولاية أردوغان الرئاسية الحالية تنتهي في عام 2028، ولن يُسمح له نظرياً بخوض الانتخابات مجدداً ما لم يتم تعديل الدستور أو الدعوة لانتخابات مبكرة ومع تقدمه في السن (مواليد 1954) وتراجع صحته في بعض المناسبات العلنية، تتزايد التقديرات بأن 2027 ستكون سنة الغياب التدريجي من المشهد، سواء عبر الانتقال الطوعي أو عبر تصاعد الضغوط الداخلية والخارجية التي تجعل استمراره غير ممكن. هذا لا يعني بالضرورة انسحاباً معلناً ، بل انتقالاً ذكياً ومدروساً للسلطة، على طريقة الزعماء الذين يصنعون خلافاءهم ثم يختفون في الظلال.


لكن من سيحمل هذا الأرث الثقيل؟ هذا السؤال يتردد همساً داخل أروقة حزب العدالة والتنمية، ويُناقش علناً في صالونات المعارضة، ويُراقب بشدة في العواصم الغربية والعربية.


داخل الحزب الحاكم، بدا لبعض الوقت أن برات البيرق، وزير المالية السابق وصهر أردوغان، سيكون الوريث السياسي. رجل اقتصاد، صاحب علاقات قوية في الخليج العربي وروسيا، وكان مقرباً من الدوائر المالية العليا. لكن استقالته المفاجئة عام 2020، وخروجه شبه الكامل من المشهد، ثم حملات التشويه الخفية التي طالته من داخل الحزب، أطاحت جزئياً بهذا الطموح، وجعلت فرص عودته محدودة، وإن لم تُغلق نهائياً ، البعض يعتقد أن البيرق سيعود لحظة فراغ الزعامة، لكن ليس بورقة القوة ذاتها، بل بورقة التفاوض.


في المقابل، هناك شخصيات داخل الحزب باتت تتحرك بصمت ولكن بثقة. أبرزهم فؤاد أوقطاي، نائب الرئيس، التكنوقراطي الهادئ الذي لا يثير العواصف. لا يمتلك كاريزما أردوغان، لكنه يحظى بثقة الأجهزة ومؤسسات الدولة العميقة. هو نموذج إداري أكثر من كونه سياسياً ، ما يجعله خياراً مريحاً للمؤسسة إذا أرادت انتقالاً ناعماً.


ثم هناك الجنرال السابق خلوصي أكار، وزير الدفاع السابق، الذي ظل وفياً لأردوغان لكنه احتفظ بقدر كبير من الاستقلالية والتقدير العسكري. لا يُنظر إليه كخصم، بل كضابط محترف قادر على الإمساك بخيوط الأمن والدولة في لحظة انتقال حرجة. ومن المهم تذكّر أن تركيا دولة لا تزال المؤسسة العسكرية فيها لاعباً صامتاً لكنه شديد التأثير، ولذلك فإن رجلاً مثل أكار يبقى احتمالاً جدياً ، خصوصاً إذا زادت التحديات الأمنية.


أما سليمان صويلو، وزير الداخلية السابق، فهو من النوع المثير للجدل. يحظى بشعبية كبيرة في أوساط القوميين والمحافظين، خطابه ناري، ومواقفه حادة، ويملك قاعدة داخل الحزب. لكنه يصطدم بشبهة التورط في صراعات داخلية، وبعض ملفات الفساد القديمة التي تلوّح بها المعارضة بين حين وآخر. صويلو قد يكون الورقة القومية التي تلعبها (الدولة العميقة) إذا قررت إعادة ضبط الاتجاه نحو الداخل، خاصة في حال تزايد الضغط الغربي.


وبعيداً عن الحزب الحاكم، تبرز أسماء المعارضة بقوة، لا سيما في المدن الكبرى التي بدأت تتنفس خارج عباءة أردوغان. أهم هؤلاء هو أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول السابق ، السياسي الوسيم الذي استطاع أن يكسر احتكار الحزب الحاكم للعاصمة الاقتصادية والسياسية للبلاد. إمام أوغلو يتمتع بكاريزما شعبية وذكاء تواصلي نادر، جعلته نجماً للمعارضة، بل وخطراً حقيقياً على أردوغان. لكن الدولة لم تتأخر في التحرك، إذ بدأت ملاحقته قانونياً ، وأُدين بالفعل في قضايا يُنظر لها على أنها سياسية. الهدف من ذلك واضح: منعه من الترشح مستقبلاً. لكن في تركيا، المنع أحياناً يصنع زعيمًا.


الاسم الثاني هو منصور يافاش، رئيس بلدية أنقرة، النموذج النقيض لإمام أوغلو. هادئ، لا يحب الكاميرات، لكنه فعّال ويحظى بقبول في أوساط الإسلاميين والقوميين على حد سواء. يافاش يُمثّل (السلطة المسؤولة) التي قد تقنع بعض مؤسسات الدولة بأنه البديل الأقل خطورة. إن ترشح هذا الرجل، فقد يكون الحصان الأسود.


أما كمال كليتشدار أوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهوري، فقد خسر رهان 2023، ورغم نضاله الطويل، إلا أن فرصه في 2028 ستكون شبه معدومة، ليس فقط لعامل السن، بل لتآكل الثقة به داخل حزبه نفسه. لكنه رغم ذلك يظل شخصية محورية في رسم ملامح التحالفات.


المفارقة أن الوريث الحقيقي لأردوغان قد لا يكون موجوداً بعد. فالرجل بنى سلطته بطريقة لا تسمح بتكراره، إذ جمع بين الدين والسياسة والاقتصاد والخطاب القومي في خلطة شبه شخصية. من سيأتي بعده، سواء من داخل حزبه أو من خصومه، لن يكون نسخة منه، بل سيكون مشروعاً جديداً بالكامل، سواء اتجهت تركيا نحو مزيد من السلطوية، أو نحو انفتاح سياسي حذر.


التقديرات الاستخباراتية الأوروبية وبعض تقارير مراكز التفكير الاستراتيجي تشير إلى أن منتصف عام 2027 سيكون نقطة التحول، حيث سيبدأ أردوغان فعليًا بتهيئة المسرح للخروج، ولو بشكل غير مُعلن. السيناريو الأكثر ترجيحاً أنه سيُخرج ورقة الخلافة عبر مرشح توافق عليه الأجهزة، ويحظى برضاه، ويُفهم من الجميع أنه امتداد لـ (الأب الروحي) لكنه ليس ظلاً كاملاً له.


الجيش، كما هو متوقع، سيظل لاعباً هادئاً ، لكنه لا يسمح بانزلاق البلاد نحو المجهول. ووكالة الاستخبارات التركية التي ازدادت قوة وتأثيراً في عهد أردوغان، ستكون جزءاً من آلية الانتقال، إما لدعم شخصية من داخل الحزب أو لضمان توازن المشهد في حال فازت المعارضة.


الساحة التركية حبلى بالاحتمالات. وكل الاحتمالات تدور حول مركز واحد: متى يغيب أردوغان فعلياً؟ ليس غياب الجسد، بل غياب اليد التي تُسيّر الدولة بكامل تفاصيلها. هذا الموعد لا يبدو بعيداً ، فصحة الرجل، وعبء السنوات، وتصاعد الضغط الاقتصادي، وتغيّر المزاج الشعبي، كلها عوامل تُمهّد لمشهد ما بعده.


حين تغيب الكاريزما، يعود الميزان إلى المؤسسات. وحين يغيب الرجل الذي صاغ تركيا الجديدة، تبدأ البلاد رحلة البحث عن ذاتها الضائعة ما بين الحداثة الإسلامية، والقومية الجديدة، والحنين إلى الأتاتوركية الكلاسيكية.


العام 2028 قد يشهد انتخابات مفصلية، لكن الاستعداد الفعلي يبدأ من 2027. وما بين هذين العامين، ستُحسم هوية تركيا لعقدين قادمين. فإما أن تُولد زعامة جديدة بعباءة ناعمة، أو تدخل البلاد في مرحلة إعادة تعريف شامل للدولة، قد تكون أكثر هدوءاً… أو أكثر اضطراباً.


في النهاية، لا أحد يرث أردوغان حقاً ، كل من بعده سيبدأ من الصفر، لأن اردوغان إذا غاب، لا يُترك له عرش بل فراغ.

ليفانت: د.محمد العرب 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!