الوضع المظلم
السبت ٠٢ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
الكرامة دون أيديولوجيا
أسامة هنيدي

ربما يعترض البعض على هكذا عنوان للوهلة الأولى إذ سيستفز الركائز التي بنى عليها طريقة تحصيله لمفهوم الكرامة وفق ما لقنه إياه حزبه العتيد، سواء كان بعثياً أعلن منذ وقت طويل تفضيله الكرامة العربية على الكرامة الوطنية أقله لناحية الشعار دون تحصيل أية مكاسب تذكر في الحالتين، أو كان شيوعيا بدأ بالحديث عن كرامة أممية ثم كان للجنة مركزية مكونة من قلة من الأشخاص رأي في تحديد شكل الكرامة وتوقيتها ومصلحتها السياسية فيها وبعدها حالة التماهي مع البعث ولكن بلغة أخرى وبلبوس جديد.

ومناسبة هذا الطرح هي نظرة متأنية على حالة احتجاجات السويداء ومكوناتها، أو بالأحرى زادها البشري الذي يزداد كمّاً ونوعاً وتنظيماً يوماً بعد يوم والسؤال الذي تحاول هذه المقالة طرحه هو: هل يحتاج الشارع إلى أيديولوجيا ليعبر عن مصلحته المعاشية والاجتماعية والسياسية ومن ثم ما هو دور الأيديولوجيا في تحريك الشارع في السويداء وإن وجد هذا الدور فما هي نسبة حضوره وهل يشكل ثقلا ما في قيادة الشارع نحو تحقيق أهدافه التي خرج من أجلها؟

وبالخروج من الدلالة اللغوية العتيقة الفرنسية الأصل لمفهوم الأيديولوجيا والذي يعني علم الأفكار وبالخروج أيضاً من تعريفها المتداول بوصفها جملة الأفكار والمعتقدات التي يؤمن بها فرد أو جماعة أو حزب أو أمة. سأنطلق في هذا المقال من وجهة نظر حصيفة قدمها المفكر المغربي عبد الله العروي الذي فضل استخدام مصطلح "أدلوجة" بدلا من أيديولوجيا ويحدد استعمالها السياسي بمعنى أنها ما يكشف الواقع لنا ويحجبه عن خصمنا التعريف الذي يجعل من الأيديولوجيا عماء معرفيا وتعصبا سياسيا وبهذا المعنى صرخ شاعر بعثي يوما وللمفارقة أنه من السويداء:

أنا البعث وليمت أعداؤه                   عربي عربي عربي

وبالعودة إلى محاولة الإجابة عن سؤالينا فيما يخص السويداء على ضوء ذلك التعريف، يمكن القول إن الثورة دون أدنى شك تحتاج إلى جسم سياسي منظم وهذا الجسم لا بد له أن يكون ديمقراطيا ومبنيا على أسس جديدة غير تلك التي أدت الى ضياع كل شيء، ومنها تجربة البعث في سوريا والعراق، وما يلف لفيفها من أحزاب جبهوية شكلية، كالتي حكمتنا طوال تلك السنوات، لكن الحاجة إلى التنظيم الديمقراطي المؤسسي المدني شيء والأيديويولوجيا القديمة الرثة شيء آخر، ومع أن أحداً لا يمكن أن ينكر دور اليعاقبة في الثورة الفرنسية أو الشيوعيين في الثورة البلشفية لكن غياب الديمقراطية قاد التجربتين إلى كثير من الأخطاء القاتلة. والناظر إلى حال الأحزاب العربية ومآلاتها بعد ثورات الربيع العربي سيدرك أن هذه الأحزاب أصلاً هي سبب من أسباب الثورات، حيث تم على التوالي حل تلك الأحزاب السلطوية عند أول مفترق بدءاً بحزب التجمع الدستوري الديمقراطي في تونس مروراً بالحزب الوطني الديمقراطي في مصر وليس انتهاء بحزب المؤتمر الوطني في السودان.

إذاً لا يبدو من منظور التجربة أن الساحة في السويداء تحتاج أيديولوجيا من هذا القبيل فشعاراتها في كثير من الأحيان تترجم ذلك السخط الشديد على البعث تحديداً الأمر الذي يتدحرج إلى حد إقفال الفرق والشعب الحزبية في كثير من المدن والبلدات والقرى.

أما عن التيارات الشيوعية الجبهوية وهي عبارة عن رمم حية فلا يكاد يسمع صوتها إلا عبر جرائد لا يقرؤها أحد وهي مسخ لجريدة البعث وهؤلاء تنطبق عليهم عبارة "إكرام الميت دفنه" والدفن هنا بالمعنى السياسي.

وفيما يتعلق بحضور كثير من الشخصيات ذات الإرث الأيديولوجي غير الديمقراطي فالجواب سيأتي بالإيجاب وخاصة من اليساريين عموماً من الذين خاضوا تجارب سياسية محدودة في فترات تاريخية مفصلية ترفع القبعة لبعضهم لأنهم كانوا شجعان زمن الرعب والموت، ويحسب لبعضهم بالطبع المراجعات الشخصية لتجاربهم الحزبية وفكاكهم منها كما يحسب لفئة ولو كانت قليلة انتصارها للحالة الوطنية التي انطلقت عام 2011 قبل أن تدخل نفقها اللاوطني المظلم.

ولا يمكن إغفال الوجوه البعثية السابقة وغير الفاعلة بالطبع بتجربتها البعثية سوى مسايرة الأمر الواقع في سوريا وتدرجهم العفوي ضمن صفوف الحزب والذين بدؤوا مع سوء أداء السلطة الحاكمة اكتشاف أوهامهم ولو متأخرين.

ومع أهمية حضور كل هؤلاء إلا أن الحضور الطاغي تتسيده فئة هي برأيي خارج دائرة التسييس ولو أن ذلك بمرور الوقت سيشكل عنصر عطالة في فعل تلك الاحتجاجات والفئة التي أتحدث عنها ملونة بطيف نسائي وشبابي وأهلي بالمعنى الحقيقي للكلمة، وقد قلت أهلي للدلالة على تهافت منظمات المجتمع المدني القائمة، عدا تلك التي تحاول تشكيل حالة نقابية بديلة للنقابات الأمنية المسيسة القائمة وهو مما يبنى عليه ومما يجب الانتباه له سيما أن النقابات رافعة أساسية من روافع التنظيمات المدنية.

إن الأزمة الاقتصادية التي عانى ويعاني منها السوريون إلى يومنا هذا مشفوعة بوعي جزئي متراكم للحالة السورية وما آلت إليه ومترافقة مع خطر أمني واجتماعي بالغ الخطورة متمثل بعصابات القتل والمخدرات التي عاثت فساداً في أرجاء المحافظة جعل من هذه الفئة غالبة في ساحة الكرامة ولا يمكن إغفال الموقف الوطني والأخلاقي والاجتماعي الحكيم للرئاسة الروحية لطائفة الموحدين الدروز الشيخ حكمت الهجري والذي شكل رافعة اجتماعية ووطنية ساهمت في تزايد عدد المحتجين في الساحة.

من هنا فإن المسار الذي تأخذه احتجاجات السويداء يكاد يخلو من الفاعلين الأيديولوجيين رغم حضورهم في الساحة وإن حضروا فإن قدرتهم على التأثير في الغالبية الساحقة غير المسيسة لا تبدو أن لها حظوظ وربما من حظ الساحة ونجاحها ألا يكون لها حظوظ فالعالم اليوم يتغير ووحده الأعمى لا يدرك ذلك وأنا هنا لا أتحدث عن تغير إيجابي بالضرورة بل أتحدث عن منطق التاريخ وحركية المجتمعات والأفكار الذي يبدو معها التمترس وراء أفكار كتبت في القرن التاسع عشر والقرن العشرين نوعاً من البلاهة.

ليفانت - أسامة هنيدي

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!