الوضع المظلم
الثلاثاء ٢٤ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
المهمّشون فتيل الثورات
هوازن خداج

في غمرة الأحداث التي يعيشها العالم من انفجار الثورات، يزداد تسليط الضوء على أوضاع المجتمعات، وتشكّل شريحة من المواطنين “المهمّشين”، تتفاوت نسبها في مختلف دول العالم، شرقاً وغرباً، وعلى أزمة ترتبط ببنية الدول وطريقة أدائها لإدارة “الكل الاجتماعي”، ليشهد العالم كمّاً من أشكال القمع والانتهاكات في مختلف البلدان. 


انتهاكات أجهزة الدولة الفوقيّة


رغم اختلاف التوصيف وفارق الزمان والمكان والأنظمة الحاكمة، إلا أنّ اختلال السياسات العامة في معالجة المشكلات القديمة والحديثة، واعتماد الدول على جهازها القمعي (الشرطة والعسكر)، ووسائل الرقابة، تمتدّ من حيّز عربي موصوف بمشكلاته التسلطية المتنوعة وغياب الحركات الاجتماعية والسياسية الناشطة، وصولاً إلى دولة تقود العالم وترسّخت فيها مفاهيم المدنيّة والديمقراطية والحقوق، بل وتعتبر القدوة في العديد من الأدبيات السياسية على الصعيد العالمي والعربي.


فممارسة القمع والإذلال يمكن تتبعها من الصفعة التي تلقّاها محمد البوعزيزي “العامل البسيط” في تونس، إلى سيطرة الجزمة العسكرية وأفرع الأمن في العديد من البلدان العربية، والقتل وقصف المدن التي أدّت لدمار سوريا، وصولاً إلى الدوس على عنق جورج فلويد المواطن الأمريكي “الأسود”، والتي تشير نحو مسار عام في طريقة التعاطي مع “المهمّشين” ومطالبهم، فمهما اختلفت بُنى الدول مازالت تعتمد على “أجهزة فوقية” تعمل على تحقيق مستويين، سياسي وقانوني، وتطبيقهم على جميع المواطنين لربطهم ضمن اتحاد عمودي مع الدولة، بدل الربط الأفقي “التعاوني” الطبيعي بين الشعوب، باعتبارها أصل الدولة، والتي صارت تشكل مع مقتل فلويد سبباً إضافياً لإجراء مراجعة للانتهاكات التي تقوم بها الشرطة، وللأنظمة التي أنتجت التهميش على مستوى العالم.


المهمّشون وجه العالم الخفي



تاريخ طويل ترسّخ فيه وجود فئة واسعة من مختلف الأعراق والأجناس والقوميات ومستويات المهمّشين. فمهما اختلفت أوضاعهم العامة، يبقى التهميش، بمعناه العملي، وجود فئات لا تشارك في العمل السياسي، ولا تتقدّم كما تتقدّم الفئات الأخرى، وتطال مناطق كثيرة، تعيش ظروفها الحرجة تحت حدّ الكفاف الاقتصادي، هذه الشريحة التي تمتدّ لتطال فئات كثيرة مثل (الموظفين، والمثقفين، والشّباب، والنّساء، والفقراء، …) في دول العالم الثالث البعيدة عن التنمية، وتطال العديد من الفئات في دول العالم المتقدّم من الأمريكي الأسود، والمهاجرين غير الشرعيين، والفقراء، والعاطلين عن العمل. فالمهمّشون يشكلون وجه العالم الخفي. 


من البوعزيزي إلى فلويد لا استثناء


في مسار السياسات للأنظمة العربية شكّلت صفعة البوعزيزي، وكلمة (ارحل)، تلخيصاً للسياسات الحاكمة، وأجهزتها القمعية (الشرطة والعسكر) لضبط المواطنين قسراً، فهذه الدول مهما اختلف تكوينها، مازالت سياساتها تدور حول كيان السلطة، وما يتأسّس معه من ظلم وقهر لشريحة واسعة من البشر. فالاستثناء الذي ساد في تونس وأسس له نظام بورقيبة بالفصل بين الدولة ونظام الحكم، وتطبيق القانون المدني وبعض الديمقراطية والحريات، في ظلّ ظروف معيشية غير متوازنة ودرجة نموّ اقتصادي ضحلة لا تسمح بتوزيع عادل للدخل، لم يجعل ما طورته تونس، قياساً ببقية الدول العربية، من الناحية السياسية والمدنية، كافياً لامتصاص الأزمات السياسية والاجتماعية، للانتقال نحو التوزيع العادل للثروة، أو لتحويل فكرة الأجهزة القمعية، باعتبارها ممثلة للدولة وليس للنظام، إلى أجهزة قادرة على التعامل الإيجابي مع المواطنين، علماً أنّ الحالة التونسية كانت حلماً بالنسبة للسوريين، الذين واجهوا شراسة النظام الحاكم وأجهزته القمعية واستهتاره بأرواح كافة المواطنين، ومازالوا يواجهون تبعات بقائه، وسط صمت دولي يزيد بتهميشهم.


أما الدول الغربية، فما بنته من قوننة وحقوق الإنسان وثقافة السلم والسلام في المجتمعات المعاصرة واعتبر مكسباً معرفياً وسياسياً واجتماعياً، لم يعمل فعلياً على إيقاف المدّ المتنامي للنزعات العنصرية، ومازال هناك الرجل الأبيض والأمريكيون السود، والطبقات المستغلة والشعوب المستعبدة، والمهمّشون، والمهاجرون الفقراء، والجماعات الإثنية، والأصوليات الدينية والقومية، وغيرها، تشكّل علامة فارقة في الفصل بين تطبيق القوانين وإقرار الحقوق وفرضها، وبين اختبارها على أرض الواقع، باعتبارها توجهات أخلاقية إنسانية لصياغة العدالة، وتبنّيها من قبل الأفراد سياسياً ومجتمعياً. والذي يجعل احتجاج المهمّشين على السياسات العامة احتجاجاً مشروعاً، إن كان موجهاً ضد أنظمة استبدادية تعزّز التهميش والفقر والعوز لمستلزمات الحياة لإخضاع مواطنيها، أو ضد أنظمة متفوقة وتشكّل استثناء عالمياً في مجالات الحقوق والقوننة أو فرضياتها، ولكنها لم تتقيّد بوصفة الحقوق الكاملة للجميع، ولم تجعل مما يجري تبنّيه نظاماً أخلاقياً عاماً أو تحقق القيم واقعياً في إدارة الخير الجماعي، وإقرار أنّ المسؤولية عن الماضي هي مسؤولية عن المستقبل.


المسار الانتقائي للقانون



ما تعيشه المجتمعات اليوم في العالم، ككل، هو مسار انتقائي ونسبي بالنظر إلى القانون والحقوق عامة، فوعود المساواة والحقوق لا تمتد للجميع. فالمهمّشون والفقراء ازدادوا تهميشاً وفقراً في عالم عائم على هشاشة الروابط الإنسانية، وانتصار المساواة ليس سوى اعترافاً حقوقياً وسياسياً، لم يلغِ التمايزات بل جعلها شؤوناً خاصة، وحدّ من قدرة الأفراد على إظهارها، ولكن يمكن استعادتها بصورة مشوّهة وأكثر عنفاً. فالرجل الأبيض الذي خسر امتيازاته أمام المساواة مع غيره من المواطنين “الملونين” والهامشيين، لم يخسر شعوره بالتفوّق أو يتخلص من عمق العداء للسود، وتكفي شرارة أو خطيئة عابرة حتى تستعاد مشاعر الكراهية التي يتلمّسها السود في مسألة التمييز العنصري، والتي لم تقتصر على قتل فلويد، أو إريك جارنر في نيويورك في 2014، عندما خنقه رجل شرطة بيديه، إنما تمتد إلى تاريخ طويل من الشعور بالغبن والتهميش، يجري تعزيزه مع حالات القتل والاستهداف الممنهج، بالرصاص، أو بشل الحركة، أوالخنق، من قبل عناصر الشرطة. ناهيك عمن في السجون، أو من يعانون تدني مستويات الدخل والإنفاق والثروة، وجميعها أدّت إلى حالة الغضب الكبيرة في مينيابوليس، ومدن أميركية أخرى إثر مقتل فلويد. 


المهمّشون كرة النار المهملة


ومثلما شكّلت نيران البوعزيزي بداية للثورات غير المنظمة التي يقودها المهمّشون في مواجهتهم للسلطات الحاكمة التعسفية، فإنّ صدمة وفاة فلويد لن تنتظر تشكيل القوة المنظمة، أو قيادة “مارتن لوثر كينج” لحركة حقوق مدنية أخرى، فهذه الحركة التي تعتبر من أشهر حركات القرن العشرين وأنجحها، على صعيد الحراك المجتمعي في تعبئة الشعب وتوظيفها لصالح المجتمع وتطوره، رغم ما رسّخته من إيجابيات حقوقية، فإنها لم تنزعِ العنصرية من نفوس البعض، بحيث لم يبقَ لهم سوى “العنف”. اعتبر الرئيس ترامب مواجهته هي الحل، بدل احتوائه، ليعلن أنّه غير مستعد لقيادة الجهود التي يمكن من خلالها بناء التوازن بين السياسة والمجتمع.


يمكن محاكمة القانون


الإيجابيات الكثيرة التي حظيت بها المجتمعات الغربية نتيجة التأصيل لقوة إرادة الفرد والمجتمع الإنساني في كبح جماح حالات الإنفلات الطارئة في السلوك الإنساني، لم تكن عاملاً حاسماً في معالجة الكثير من الآثار السلبية المتراكمة داخل المجتمعات الأكثر تطوراً. فما حدث من فعل الإذلال في كلا الحالتين، الصفعة العمد لحفظ القانون والخنق العمد تحت ستار القانون، تجعلنا نتوقف أمام المفارقة التي يشكلها القانون نفسه، فهذه ليست تفصيلاً باهتاً أو حدثاً طارئاً يمكن تجاوزه.


ليفانت – هوازن خداج 

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!