الوضع المظلم
الجمعة ٠٨ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
المواطنة خيار ديمقراطي
عبد العزيز أيو

في الحقيقة والواقع إنّ مفهوم المواطنة ليس مفهوماً حديثاً، هذا المفهوم موغل في القدم، ويعود للحضارتين اليونانية والرومانيّة. ولقد خضع هذا المفهوم الإشكالي للتطور عبر التاريخ، وساهم الكثير من المفكرين والفلاسفة وعلماء الاجتماع والمشرّعين في صياغة الرؤى الفكرية لهذا الموضوع، وعملوا على إغنائه بالآراء والدراسات، لأنّ مفهوم المواطنة في الواقع من المفاهيم القابلة للبحث والتطوير ومواكبة العصور.

ففي القرن الماضي، شهد العالم انهيار الإمبراطورية العثمانية، وتم تقسيم تركة الرجل المريض، فكانت اتفاقية سايكس بيكو، التي بموجبها قامت العديد من الدول والكيانات السياسية التي لم تكن موجودة سابقاً، ووقعت الحرب العالمية الأولى والثانية التي عانت البشرية من أهوالها، كما شهد العالم، في نهايات القرن الماضي، أحداثاً كبيرة وجساماً، كان لها تداعيات وتغيرات، خاصة بعد انهيار المنظومة الاشتراكية وتفكك بعض الدول، واجتاح العالم موجات العنف والمذابح العرقية، وتزايدت المشكلات العرقية والمذهبية والدينية. كل هذه العوامل أدّت إلى انهيار مجموعة من المفاهيم التي كانت قائمة آنذاك، لاسيما مقومات وقيم الفكر الشمولي وإفرازاته. ومع التقدّم العلمي الذي حصل في مجال التكنولوجيا وعلم الاتصالات، والذي غدا فيه العالم كأنه قرية صغيرة، فبات مفهوم المواطنة أحد الحلول التي تطرح لحل مثل تلك المشكلات المعقدة والجديدة الطارئة، واستطاعت الدول المتحضرة استيلاد الدولة الوطنية والتعامل مع مفهوم المواطنة وما يترتب على ذلك من حقوق والتزامات ضمن دولة المؤسسات.

وبالرغم من تأثر العالم الثالث بمبادئ الديمقراطية ومفهوم الدولة الحديثة، وبما حملت الثورة الفرنسية من مبادئ وأفكار، والانتشار الكبير لمبادئ حقوق الإنسان والإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان، إلا أنّ الأنظمة الدكتاتورية في العالم الثالث، ومنها الأنظمة العربية أيضاً، التي بقيت بعيدة عن تلك القيم، وقد استطاع العسكر في بعض تلك الدول الاستيلاء على السلطة عن طريق الانقلابات العسكرية، وبطرق غير شرعية وغير قانونية.

وسخر هؤلاء العسكر أحزاباً تابعة لها للسيطرة على مؤسسات الدولة ومقدراتها، فأصبحت الدولة بكل مقدراتها ومؤسساتها ملكاً ورهينة لتلك الطغم الحاكمة ولمن حولها. وبالأصل لم يكن في مصلحة تلك الأنظمة تطوير الفكر السياسي والاجتماعي، ولم تكن جادة في استيلاد الدولة الوطنية، ذلك من جهة، وكانت هناك أسباب أخرى تقف حاجزاً لبناء الدولة الوطنية من جهة أخرى، نذكر منها:

١- الجهل والفقر والبطالة والتخلّف الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والإداري. ٢- انتشار الفساد بأنواعه، السياسي والاجتماعي والإداري. ٣- غياب الإرث الفكري والثقافي لمفهوم الديمقراطية والمواطنة. ٤- ضعف مؤسسات المجتمع المدني، وتغيب السياسة والفكر السياسي عن الشارع.

ولما كان مفهوم المواطنة يعدّ اليوم الركيزة الأساسية لتطبيق الديمقراطية كمبدأ عام للقيام الدولة الوطنية، الدولة التي تقوم على أسس قانونية ودستورية، وتنظم العلاقة ما بين مؤسسات الدولة، وتضمن حقوق وحريات المواطنين وتدعم العمل المؤسساتي. ولما كانت المواطنة كمفهوم ذي مضمون ثقافي وسياسي واجتماعي، وبهذه المعاني تكمن في المواطنة ضرورة الاعتراف بالتنوع العرقي والإثني والتعدد اللغوي والديني والسياسي والثقافي والطائفي والاقتصادي والأيديولوجي.

فالمواطنة الصحيحة هي تلك التي لا تتجاهل الواقع وحقائق التركيبة الإثنية والعرقية والثقافية والاجتماعية للوطن، ولا تنكر الحقيقة ولا تمارس سياسة الإقصاء، إنما تتصالح مع هذا الواقع وتتعامل معه بشكل موضوعي، وتعتبر هذا الواقع بتفاصيله محطة انطلاق لبناء الأرضية المناسبة لإنشاء ثقافة الدولة الوطنية التي يتفاعل فيها كل هذا التنوع وكل هذه الثقافات.

وبالتالي تكون الثقافة الوطنية هذه محل اعتزاز للكل المشاركين بها. وهناك من يرفع شعار المواطنة تهرباً من استحقاقات دستورية للحقوق المترتبة للمكونات الأساسية للوطن، ويتهرب من الحوار والاعتراف بحقوق هذه المكونات والإقرار بها في الدستور والقوانين التي تحمي تلك الحقوق، وهناك من لا يتخلى عن المشاريع العابرة للوطنية، مثل المشاريع القومية والدينية والأيديولوجية، ويدعو إلى تبني مفهوم المواطنة المعاصرة.

فالوطن كما يقال ليس قطعة قماش أو نشيداً وطنياً. المواطنة خيار ديمقراطي، ولا يتحقق ذلك الخيار إلا بالعمل ومواءمة الفكر مع الواقع واستنباط الحلول منه، وأن يكون ذلك العمل من خلال الحوار الذي يعتبر المدخل والأداة الأساسية للتعامل والتفاعل في إيجاد القواسم المشتركة بين كافة مكونات المجتمع المؤلفة للدولة، والعمل على تطوير تلك القواسم وتوسيعها، وإبقاء الخلافات التي قد تثار في مجال دائرة الخلاف السلمي، والإبقاء على قاعدة الاحترام المتبادل بين القوى السياسية المختلفة، ومنع انتقال الصراع إلى السطح والتشكيك في النوايا والاتهام والتخوين، والسير نحو تشكيل رأسمال اجتماعي وفكري تراكمي لمفاهيم المواطنة والديمقراطية والمشاركة والحوار البناء، وذلك لأن اليوم يعتبر مفهوم المواطنة أحد الضمانات الأساسية لالتقاء جميع الانتماءات لصالح الانتماء إلى الوطن والولاء له، ضمن إطار نصوص دستورية وقانونية تحمي وتصون ذلك الانتماء، واعتبار المصلحة الوطنية الجامعة فوق كل مصلحة واعتبار.

إن واقع أغلب دول العالم الثالث اليوم تؤكد حاجتها الماسة إلى تحقيق دولة المواطنة لبناء نهضة تقوم على أركان صحيحة ومن خلال ذلك يتم بناء الدولة الوطنية التي تساهم في: - بناء دولة المؤسسات والقانون التي تحفظ حقوق المكونات والأفراد، وتترسخ فيها قيم المساواة والحرية والكرامة واحترام القانون وتطبيقه. - احترام الاختلاف والتنوع الإثني والعرقي والديني ويتم الإقرار بها في الدستور. - الحوار هو الأسلوب والطريقة التي يتم بها حلّ كل الخلافات الطارئة تحت سقف القانون. - مساواة الجميع أمام القانون ولا استثناء ولا امتيازات لأحد. - تكافؤ الفرص والمشاركة في الحياة العامة، وهذا يعني بأنّ المجال مفتوح أمام الجميع للمشاركة في كافة مجالات الحياة العامة، من حقوق الطفل في التربية والتعليم والحياة السليمة، وصولاً إلى تشكيل الأحزاب وتولي المناصب في كافة دوائر الدولة ومؤسساتها. - يتم تحفيز كل الأفراد للقيام بكافة الالتزامات والواجبات المترتبة عليهم بموجب القانون والدستور. - يكون الولاء والانتماء للوطن واعتبار مصلحة الوطن فوق كل اعتبار أو انتماء آخر. - يتم تطوير الوطن وازدهاره ومواكبته ومساهمته في الحضارة الإنسانية. - تربية الطفل، الذي هو ثروة المستقبل، على حب الوطن والمشاركة في الحياة العامة، في عالم اليوم الذي يسوده قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والجماعات. لقد اعتمدت الدول المتمدنة قاعدة التربية على المواطنة من أسس المناهج التربوية، وخاصة بعد اعتماد أكثر الدول أحكام الاتفاقية الدولية عام ١٩٨٩ لحقوق الطفل، والتي (تلحّ على عدم النظر إلى تلاميذ المدراس كمجرد تلاميذ ينبغي إعدادهم لكي يكونوا مواطنين في المستقبل، بل يجب إعدادهم للمشاركة الفاعلة في بناء وطنهم وتأهيلهم لحمايته وصيانة تراثه وثرواته والعمل على تقدمه ونهضته).

وفي نظر الكثير من الخبراء في هذا الموضوع (للتحقيق مواطنة صحيحة يقتضي قبل كل شيء تربية الأجيال الصاعدة على المواطنة وعلى المشاركة).

مرت الشعوب المتقدمة بمحن وتجارب قاسية جداً ومخاضات كثيرة حتى حققت الديمقراطية التي نجمت عنها الكثير من مؤسسات المجتمع المدني، ووصلت إلى بناء الدولة الوطنية الحديثة والمواطنة الحقة.

باتت اليوم الكثير من النخب الفكرية والسياسية الجادة تبحث عن حلول لأزمات ومعضلات مجتمعاتها، وذلك من خلال الحوار البناء وإدراك أن الديمقراطية والمواطنة مطلب داخلي ملح، وليست مطلباً خارجياً ومستورداً، كما يدّعي معارضو الفكر الديمقراطي. وتدرك هذه النخب بأن المواطنة، أولاً وأخيراً، خيار ديمقراطي لن ينجح ما لم يعمل من أجله الجميع.

وعليها أن تسلك سلوك المسؤول والالتزام الأخلاقي بقضايا المجتمع، وأن تشعر بخطورة غياب التقاليد والإرث الديمقراطي، وأن تتبنى الحوار الخلاق واتباع الأسلوب الديمقراطي الراقي وسماع الرأي الآخر واحترامه. وما أحوجنا، نحن السوريين، خاصة وفي هذه الآونة الخطيرة التي تمر بها بلادنا، إلى ترسيخ مفهوم المواطنة وأركانها وقيمها في وجدان السوريين وترجمتها إلى واقع معاش، وألا تبقى هذه المفاهيم مجرد أفكار ومبادئ في أذهان النخب الفكرية والثقافية، وفي برامج الأحزاب السياسية بعيدة عن أرض الواقع، والعمل الجاد على تهيئة الأرضية الخصبة والمناخ السياسي الملائم لرسوخ جذور الديمقراطية في بيئتنا الاجتماعية والسياسية والثقافية، للتمكن من استيلاد الدولة الوطنية وإيجاد مفهوم المواطنة الصحيحة والمواطن الفعال. ليفانت- عبد العزيز أيو

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!